في دراسة علمية حديثة، دقّ باحثون من جامعة تولين ناقوس الخطر حيال التأثيرات المدمرة لأنماط مناخ “النينيو” و”النينيا” على النظم البيئية الساحلية الحيوية.
وحذّر العلماء من أن هذه التقلبات المناخية واسعة النطاق تؤثر على نحو نصف غابات المانجروف المنتشرة حول العالم، مما يبرز هشاشة هذه النظم البيئية وقابليتها الشديدة للتأثر بالتغيرات المناخية، حتى في ظل الجهود العالمية الرامية إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة.
وتُعدّ غابات المانجروف منظومات طبيعية فريدة، تتكوّن من تجمعات كثيفة من الأشجار والشجيرات التي تنمو في المياه الساحلية المالحة أو شبه المالحة، وتشكل حاجزًا طبيعيًا يُعد خط الدفاع الأول في مواجهة العواصف وارتفاع مستويات البحار.
خطر يهدد السواحل
الدراسة التي نُشرت في مجلة Nature Geoscience، تحت عنوان: “كيف تهدد التقلبات المناخية لظاهرتي النينيو والنينيا أشجار المانجروف في جميع أنحاء العالم”، عن رؤى جديدة ومقلقة حيال مستقبل هذه النظم البيئية الساحلية الحيوية.
وتُعد هذه الدراسة الأولى من نوعها؛ حيث اعتمد الباحثون على تحليل دقيق لما يقرب من عقدين من البيانات المستمدة من الأقمار الصناعية، وتحديدًا خلال الفترة الممتدة من عام 2001 إلى 2020، بهدف تتبع الأنماط العالمية لتأثير ظاهرة النينيو – التذبذب الجنوبي (ENSO) على ديناميات نمو وتدهور غابات المانجروف في مختلف مناطق العالم.
وأوضحت الدراسة أن ظاهرة النينيو لا تقتصر على منطقة بعينها، بل تمثل نمطًا مناخيًا واسع النطاق، نابعًا من تغيّرات في حرارة مياه المحيط الهادئ ورياحه، ما يؤدي إلى اضطرابات مناخية تطال مناطق شاسعة من الكرة الأرضية.
وأشارت النتائج إلى أن فترة النينيو تشهد تدفق كميات كبيرة من المياه الدافئة نحو شرق المحيط الهادئ، فيما تسود مياه أكثر برودة في نفس المنطقة خلال فترات النينيا. وتُحدث هذه التحولات المناخية اضطرابات كبيرة في دورات هطول الأمطار، وتزيد من حدة العواصف، وتؤدي إلى تقلبات في درجات الحرارة على مستوى العالم، وهو ما يُسفر عن فيضانات مدمّرة، وموجات جفاف قاسية، وتحولات ملحوظة في نشاط الأعاصير.
تذبذب قاتل
لم يعد تأثير ظاهرة النينيو مقتصرًا على تبييض الشعاب المرجانية، وحرائق الغابات، والجفاف فحسب، بل أكد الباحثون دورها الحاسم في رسم مستقبل وصحة غابات المانجروف أيضًا. فقد كشفت الدراسة عن نمط تأثير متذبذب واضح؛ إذ يؤدي ظهور النينيو إلى تدهور واسع النطاق في غابات المانجروف الواقعة غرب المحيط الهادئ، في حين تشهد نظيراتها في شرقه نموًا وازدهارًا ملحوظين. وعند حلول النينيا، ينقلب هذا الوضع تمامًا: تنتعش غابات الغرب بينما تبدأ غابات الشرق في الانحسار والتدهور.
وفي سعيهم لفهم هذا النمط المناخي المعقد وتأثيره على المانجروف، توصّل باحثو جامعة تولين إلى تحديد العامل الرئيسي الكامن خلف هذا التفاوت، والمتمثل في تذبذبات مستوى سطح البحر. فقد أوضحت الدراسة أن ظاهرة النينيو تتسبب في انخفاض مؤقت في منسوب المياه بالمناطق الغربية من المحيط الهادئ، ما يؤدي إلى زيادة تركيز الأملاح في التربة إلى مستويات تهدد حياة أشجار المانجروف الحساسة، وتعرضها لخطر الموت.
ولتعميق فهم العلاقة بين الظواهر المناخية وصحة الغطاء النباتي الساحلي، استعان الفريق البحثي – الذي ضم علماء من جامعة شيامن والجامعة الوطنية في سنغافورة – بتقنيات متقدمة لتحليل بيانات الأقمار الصناعية، مستخدمين “مؤشر مساحة الأوراق” الذي يتيح تقديرًا دقيقًا لإنتاجية النباتات من خلال قياس كثافة أوراقها.
وقد مكّنت هذه المنهجية المبتكرة الباحثين من ربط مؤشرات نمو المانجروف بالمتغيرات المناخية والمحيطية على مدى زمني طويل، ما أتاح لهم إجراء تقييم شامل لحالة هذه الغابات وتطورها في مواجهة تقلبات المناخ العالمي.
توازن هش
من جانبه، أكد البروفيسور دانيال فريس، خبير علوم الأرض والبيئة بجامعة تولين وأحد المشاركين في إعداد الدراسة، على الدور الحيوي الذي تضطلع به غابات المانجروف في خدمة ملايين البشر حول العالم. فهي توفّر حماية لا تقدّر بثمن من العواصف، وتُعدّ خزانات طبيعية للكربون، كما تدعم مصائد الأسماك التي تعتمد عليها العديد من المجتمعات الساحلية كمورد رئيسي للغذاء والدخل.
وأشار فريس في بيان صحفي إلى أن بقاء هذه النظم البيئية الثمينة مرهون بتوافر ظروف بيئية دقيقة ومتوازنة، مما يجعلها بالغة الحساسية أمام أي تقلبات مناخية، وفي مقدمتها ظاهرة النينيو.
واختتم فريس بتحذير واضح: “تُعدّ أشجار المانجروف من أكثر النظم البيئية قيمة على كوكب الأرض، لكنها تعيش في توازن هش للغاية مع بيئتها المحيطة”.
واختتم: “تعميق فهمنا لتأثير التغيرات البيئية على هذا الموطن الفريد هو خطوة أساسية نحو حمايته واستعادته بفاعلية، مع ضمان استمرار الدعم للمجتمعات الساحلية التي تعتمد عليه اعتمادًا كبيرًا”.