مبادرة سعودية لإعادة تدويرها.. رحلة ملابس الإحرام من الهدر إلى الاستدامة

شارك:

يرتدي ملايين المسلمين كل عام ملابس الإحرام أثناء أداءهم لمناسك الحج والعمرة، في مشهدٍ يجسد البعد الروحي للتجرد والمساواة، لكن الملابس التي تستخدم لبضعة أيام فقط، غالبًا ما تُترك وراء الحجاج في نهاية الموسم، مُخلفةً عبئًا بيئيًا واقتصاديًا كبيرًا يتمثل في آلاف الأطنان من المخلفات القطنية المهدرة.

هذا الهدر الموسمي شكّل دافعًا لإطلاق مبادرة “إحرام مستدام”، التي تعمل على إنشاء منظومة متكاملة لإعادة تدوير ملابس الإحرام، وتحويلها إلى منتجات جديدة قابلة للاستخدام. كما تهدف المبادرة إلى ربط الشعائر الدينية بمفاهيم الاستدامة، وتعزيز مفهوم الاقتصاد الدائري والوعي بأهمية تقليل الأثر البيئي لمواسم الحج والعمرة.

وتقود المبادرة شركة “تدويم” البيئية المتخصصة في إعادة التدوير والموضة المستدامة، تحت مظلة هيئة الأزياء التابعة لوزارة الثقافة والشركة السعودية الاستثمارية لإعادة التدوير “سرك”، بالتعاون مع المركز الوطني لإدارة النفايات، ومجموعة “سانكو” العاملة في مجال المنسوجات المستدامة.

صناعة النسيج والضغوط البيئية

تبرز أهمية إعادة تدوير ملابس الإحرام في ظل حجم الاستهلاك الكبير لها، إذ يُستخدم ما يقرب من 18 مليون قطعة إحرام سنويًا، بحسب تقديرات المبادرة، وتزداد قيمة هذا المورد لكونه يُصنّع غالبًا من خامات قطنية خالصة.

تتلاقى هذه المبادرة مع الاتجاه العالمي المتصاعد نحو إعادة تدوير المنسوجات، كوسيلة للحد من الضغوط البيئية التي تفرضها صناعة النسيج على الموارد الطبيعية. إذ تُعد هذه الصناعة من بين أعلى الصناعات استهلاكًا للمياه والطاقة، وتُسهم بشكل كبير في انبعاثات الكربون.

تُشكل المنسوجات القطنية تحديدًا جزءًا رئيسيًا من هذا العبء، بسبب ما تتطلبه من موارد خلال مراحل الزراعة والإنتاج. حيث يعد القطن من المحاصيل الشرهة للمياه، ووفقًا لتقديرات اللجنة الاستشارية الدولية للقطن (ICAC)يتطلّب إنتاج كيلوغرام واحد من ألياف القطن ما بين 8 إلى 10 آلاف لتر من المياه العذبة، وقد يزداد ذلك في المناطق الجافة.

كما تعد زراعة القطن من المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمبيدات والأسمدة الكيميائية، إذ تستهلك نحو 200 ألف طن من المبيدات و8 ملايين طن من الأسمدة سنويًا، وهو ما يمثل 16% و4% من الاستخدام العالمي على التوالي، بحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة. ويُشير تقريرٌ للصندوق العالمي للطبيعة إلى أن الممارسات غير المستدامة والسائدة لزراعة القطن حاليًا تُسهم في تدهور جودة التربة بشكل كبير.

اعتمد مشروع “إحرام مستدام” في انطلاقه على مجموعة من المؤشرات الرئيسية، التي تكشف حجم الهدر وإمكانية تحويل هذا الفاقد إلى قيمة مضافة ضمن سلسلة التدوير والإنتاج المستدام، الذي ينعكس بدوره على تحقيق الاستدامة ويحد من الأثر البيئي للمنسوجات كما يوضح نواف الحيسوني مدير العمليات اللوجيستية بشركة تدويم.

ويشير في حديثه لـ”أوزون” إلى أن تأسيس المنظومة انطلق من دراسة شاملة لسوق ملابس الإحرام، وأنماط الاستهلاك وسلوك الحجاج في استخدامها والتخلّص منها. متابعًا: تُقدّر القيمة السنوية لهذا السوق في السعودية بنحو 900 مليون ريال، في ظل اعتماد شبه كلي على الاستيراد، إذ تُستورد نحو 97% من الإحرامات من دول مثل الصين والهند وتركيا، مقابل وجود مصنعين محليين فقط متخصصين في إنتاجها.

تحليل سلوك الحجاج والمعتمرين أظهر أن حوالي 85 – 90% منهم يتخلصون من ملابس الإحرام بعد الانتهاء من أداء المناسك، ولا يأخذونها معهم إلى بلادهم، سواء لعدم حاجتهم إليها أو لرغبتهم في التخفف من وزن الإحرامات لحمل الهدايا والمقتنيات الأخرى، بحسب ما أشار إليه الحيسوني.

موضحًا أن وزن القطعة الواحدة يتراوح بين 1.2 – 1.8 كجم، وقد يحمل الحاج أكثر من قطعة، مما يزيد العبء عليه. هذه الملابس غالبًا ما تُلقى في الطرقات أو الحاويات العامة وتختلط مع النفايات الصلبة، ما استلزم العمل على تنظيم جمعها وإعادة تدويرها.

دورة حياة جديدة للإحرام

وفي حديثه يوضح الحيسوني أن العمل الميداني بدأ خلال موسم الحج عام 2023، برصد نقاط تقاطع الحجاج وأماكن تداول ملابس الإحرام، سواء في المواقيت، أو في مكة المكرمة والمدينة، وخلال المبادرة نجحنا آنذاك في الوصول إلى أكثر من 150 ألف حاج، ومن خلال المتطوعين تم جمع أكثر من 30 طنًا من ملابس الإحرام المستخدمة، والتي نتج عنها إعادة تدوير وتصنيع مايزيد عن 26 ألف قطعة إحرام جديدة بالكامل.

وبحسب الحيسوني “تمر المنظومة بعدة مراحل، تبدأ بجمع الإحرامات المستخدمة في نقاط محددة داخل المشاعر المقدسة، وفي مخيمات ومواقع إقامة الحجاج، وذلك بالتعاون مع فرق تطوعية ميدانية، تعمل على رفع الوعي البيئي للحجاج، وإيضاح التأثير الإيجابي المترتب على التبرع بها بدلاً من التخلص العشوائي منها”.

يتابع: “ننقل الكميات التي تم جمعها إلى منشآت الفرز حيث يُفصل القابل للتدويرعن غيره، لتخضع بعدها إلى الغسيل والتعقيم، تمهيدًا لعمليات التفكيك وإعادة غزل الخامات النسيجية، لإنتاج ألياف جديدة تُستخدم في صناعة إحرامات أو منتجات نسيجية أخرى، وهذا ما أجريناه بالتعاون مع مجموعة سانكو التركية”.

الإحرامات المعاد تدويرها تُطرح من جديد في الأسواق بأسعار مناسبة، وفقًا للحسيوني؛ حيث تم توزيع نقاط البيع الرسمية في مناطق تجمّع الحجاج، في مكة المكرمة والمدينة، بما فيها المنافذ البرية ومطار الملك عبدالعزيز الدولي، والأسواق الواقعة في محيط المسجد الحرام.

ويؤكد أن هذا المشروع يعتمد تطبيق مبادئ الاستدامة بكل تفصيلة في مراحل الإنتاج، “حتى التغليف صممناه كحقيبة يمكن إعادة استخدامها، وهي مصنوعة من خامات قطنية معاد تدويرها بالكامل”.

تعزيز ثقافة الاستهلاك المستدام

رغم القيمة البيئية والاقتصادية الكبيرة للمشروع، إلا أن هناك تحديات تواجه تداولها في الأسواق والإقبال عليها من جانب المستهلكين. هذه التحديات تتمثل في غياب ثقافة الاستهلاك المستدام لدى الجمهور، حسبما يلفت مدير العمليات اللوجيستية في شركة “تدويم”.

قائلاً: “لاحظنا أن كثيرًا من المستهلكين يترددون في شراء إحرامات معاد تدويرها، بسبب مخاوف تتعلق بالنظافة أو الصحة، واعتقادهم الخاطئ بأنها مجرد ملابس انتقلت من شخص إلى آخر دون معالجة. لذا عمل الفريق منذ البداية على تصميم حملات توعوية تسعى إلى بناء ثقافة بيئية جديدة لدى الحجاج والمجتمع المحلي”.

هذه الحملات ترتكز على دمج الأبعاد البيئية التي توضح ماهية الاستهلاك المستدام وأهمية الحفاظ على البيئة، مع الجوانب الروحانية المرتبطة بالقيم الدينية. لذا حرصنا على أن نقدّم للمستهلك رحلة الإحرام كاملة، من لحظة الجمع وحتى تحوله إلى منتج جديد صديق للبيئة، مشيرًا إلى أن المشروع وفّر رموز QR مدمجة في التغليف، تمكّن المستهلك من تتبع مراحل الإنتاج والاطلاع على التفاصيل التي توثق عملية الجمع والمعالجة والتدوير.

ويختم الحيسوني حديثه بالإشارة إلى أن السردية التي يقوم عليها الجانب التوعوي تعتمد على خلق رابط وجداني بين الحاج والإحرام المستدام، لجعله يعيش القصة وكأنها رحلة مستمرة لحجاج سابقين، وأن مساهمته في التبرع والإعادة إلى الدورة الإنتاجية هي خطوة مهمة في جهود جماعية لتقليل الهدر وحماية البيئة.

شارك:

Picture of ندى البدوي

ندى البدوي

صحفية مصرية متخصصة في قضايا البيئة والمناخ والاستدامة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

logo-oxary
Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut labore et dolore