منصة رقمية متخصصة بقضايا تغير المناخ في الشرق الأوسط

“الموت القادم من البحر”.. صيّادو مصر يدفعون ثمن التنمية والتغير المناخي “تحقيق”

صيّادون أحبّوا البحر. أفنوا العمر فيه. ولكنّه صار شحيحا لا يبادلهم الحبّ بكرم. في الحقيقة، ليس الذّنب ذنب البحر وحده. كلّ يوم تلقى سموم التنمية والاستثمار وفضلات بشرية في البحر فتقتل الأسماك ويجوع الصيّادون.
في الشمال الشرقي من البلاد وتحديداً في منطقة شطا من محافظة دمياط، يدفع مربّو الأسماك ثمنا باهظا للتغيرات المناخية وإهمال الحكومة لمحطات الصرف الصحي في القرى المطلة على المزراع السمكية.
في بورسعيد أيضا، المدينة الباسلة، صارت قرية الصيّادين الّذين شهدوا الحرب مهجورة. فقد احتلّتها نفايات المصانع الضخمة وهجرها رجالها بحثا عن لقمة الجوع خارجها.

يربط بين شطا والقابوطي بحيرة شهدت عقودا من التلوث والإهمال، إلى أن شرعت الحكومة الحالية بتنظيفها وتطويرها. ولكن مازالت منطقتا شطا والقابوطي محرومتين من التنظيف.

يتناول هذا التحقيق المكوّن من جزئين، آثار التلوث على مربي الأسماك في منطقة شطا بدمياط، أين ضاعف الصرف الصحي وارتفاع درجات الحرارة همومهم إذ قتل اسماكهم وضاعف ديونهم لدى هيئة الثروة السمكية. أما في القابوطي حيث الصيد الحرّ، فقد هاجر الصيّادون خوفا من ملاقاة مصير زملائهم الّذين امتلأت أسرّة المستشفيات بأجسادهم العليلة.

الأَخَوَانِ علي وحسانين فيالة.

التغير المناخي وفضلات البشر يدمران مزارع دمياط السمكية

التاسع من سبتمبر 2021، يوم لا ينساه الأَخَوَانِ علي وحسانين فيالة. استيقظ الشّابان يومها فجراً كعادتهما، وتوجّها سوية إلى مزرعتهما السمكية في منطقة “شطا” التابعة لمحافظة دمياط. كانا يريدان وضع العلف للأسماك، لكنّهما كانا على موعد مع صدمة عقدت لسانيهما. فوق سطح المياه، كانت الأسماك تطفو هامدة منتفخة البطن. 

لم تكن تلك حالة النفوق الأولى التي تتعرّض لها أسماك عائلة فيالة، فقد اعتادت  موت أسماكها في السنوات الخمس الأخيرة. نفوق سبّبته عوامل التغير المناخي وعلى رأسها  الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة، ضاعف الأزمة محاصرة التلوث القادم من محطات الصّرف الصحي لمنطقة مثلث الديبة الواقعة في مدينة شطا بمحافظة دمياط.

لكن النفوق الأخير في سبتمبر الماضي كان الأصعب، حيث اضطرّت العائلة إلى الاقتراض من البنك لشراء “الزرّيعة”. على امتداد 15 شهرا، أطعمت العائلة أسماكها بمعدّل حاويتي علف يوميا، كان سعر الحاوية الواحدة يتخطّى الـ 800 جنيه (51 دولار)، وكان آل فيالة يأملون  أن يعوّض الإنتاج خسائرهم ويمكّنهم من تسديد ديونهم للبنك ومستحقات القيمة الإيجارية للمزرعة لهيئة الثروة السمكية التابعة لوزارة الزراعة.

غير أنّ الأسماك نفقت، وتبدّدت معها آمال العائلة. ليس آل فيالة الوحيدين على هذا الحال، تعاني أكثر من 1300 مزرعة سمكية في محافظة دمياط من مياه الصرف الصحي المتسرّبة من محطات القرى المتراصة على ساحل بحيرة المنزلة في دمياط (الخياطة – رأس البر- البرج -دمياط). تتسلّل مياه الصرف الصحي إلى مزارعهم السمكية، فتقتل اسماكهم وتزيد ديونهم وسط ضعف الرقابة من وزارة البيئة.

يكشف هذا التحقيق عدم مطابقة مياه الصرف الصحي التي يتم صرفها في البحيرة للمواصفات البيئية التي اشترطها قانون البيئة المصري رقم 9 لسنة 2009 ولائحته التنفيذية. يفاقم الأزمة ارتفاع مستويات التلوث عن المعايير الدولية، إذ جمعت معدة التحقيق كائنات بحرية من المزارع السمكية وعينات من التربة والماء في مناطق عدّة، وأخضعتها للفحص المخبري، الذي أكّد عدم صلاحية الأسماك للاستخدام البشري، ما يهدّد مربي الأسماك بالخسارة المادية وقاطني المنطقة بالأمراض.

على بعد 236 كيلو من محافظة القاهرة تقع محافظة دمياط، في الجزء الشمالي الشرقي من الدولة، يزيد عدد سكانها عن المليون ونصف نسمة وفقا لجهاز التعبئة والإحصاء المصري.

 المزارع السمكية التي يستأجرها آل فيالة وجيرانهم تتبع مثلث الديبة وهو الجزء الشمالي لحدود بحيرة المنزلة ويقع كاملا داخل حدود محافظة دمياط وحدوده من الناحية الغربية طريق دمياط-عزبة البرج بطول 15 كم ويمثل قاعدة المثلث ومن الشمال طريق دمياط بورسعيد الساحلي القديم على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

الضلع الثالث طريق دمياط شطا- بورسعيد وحتى الديبة والتى تمثل رأس المثلث فى الجانب الجنوبي وذلك وفقا الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية.

يتم زراعة الأسماك البحرية فقط في مثلث الديبة وهم القاروص والوقار والحنشان والجمبري والعائلة البورية.

تعاني منطقة مثلث الديبة في دمياط من تلوث تاريخي ناجم عن مياه الصرف الصحي غير المعالجة من محطة الخياطة لعدم كفاءتها وكذلك عن مخلفات مساكن المجتمعات في منطقة طبل والرطمة وبعض أماكن عزبة البرج، إضافة إلى التلوث الناجم عن الصرف الزراعى المحمّل بالمبيدات من منطقة الشيخ درغام بالخياطة، وذلك وفقا للهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية.

يؤكد ذلك شكوى تقدم بها أحد مستأجري المزارع السمكية ضد محطة الصرف الصحي بعزبة البرج في ديسمبر 2017، وحصلت معدة التحقيق على نسخة منها. أمر حينذاك رئيس شرطة البيئة والمسطحات المائية بدمياط بتكليف أحد المختصين بإدارة شؤون البيئة لعمل تقرير معاينة عن الصرف الناتج عن المحطة. خلص التقرير إلى  أن جميع مراحل المعالجة في محطة عزبة البرج متوقفة كلياً حيث أن مياه الصرف تدخل إلى المحطة وتنتقل من مرحلة معالجة إلى أخرى حتى تصل إلى المخرج (بحيرة المنزلة) دون أن تكون قد خضعت إلى أي نوع من أنواع المعالجة.

يخالف هذا الوضع قانون البيئة ولائحته التنفيذية الذين ألزما المنشآت، التي يصرّح لها بتصريف المواد الملوثة القابلة للتحليل، بمعالجتها أولاً. ويمنح صاحب الشأن في حالة المخالفة مهلة بشهر واحد لمعالجة المخلفات لتصبح مطابقة للمواصفات والمعايير المحددة التي وضعتها وزارة البيئة. ويوقف التصريف بالطريق الإداري ويسحب الترخيص الصادر للمنشأة إن لم تتحقق المعالجة خلال المهلة المشار إليها أو ثبت من التحليل خلالها أن استمرار الصرف من شأنه إلحاق أضرار جسيمة بالبيئة المائية.

لا يسمح بالصرف فى البيئة البحرية إلا على مسافة لا تقل عن 500 مترا من خط الشاطئ ، كما لا يسمح بالصرف فى مناطق صيد الأسماك أو مناطق الإستحمام أو المحميات الطبيعية بما يحافظ على القيمة الإقتصادية أو الجمالية للمنطقة. قانون البيئة المصري رقم 4 لسنة 1994

حصلت معدّة التحقيق على نسخة من تقرير صادر عن معمل الطب الوقائي بمحافظة دمياط عام 2018. يكشف التقرير أن نتائج عينات التحليل الذي أجراه فريق إدارة صحة البيئة بالمحافظة لمحطة الصرف الصحي ومعالجة المياه بعزبة البرج بدمياط غير مطابقة لقانون البيئة المصري ولائحته التنفيذية. وذلك لارتفاع الأكسجين الحيوي الممتص والأكسجين الكيماوي المستهلك، والزيوت والشحوم والأمونيا وكبريتيد الهيدروجين عن الحدود التي سمحت وزارة البيئة بصرفها في المسطحات المائية. للاطلاع على مستند العينةللاطلاع على المحضر

انفوجراف بنتائج التحليل ومقارنتها بالحدود المسموح بها
انفوجراف بنتائج التحليل ومقارنتها بالحدود المسموح بها

يضيف على ذلك الرئيس الأسبق لهيئة الثروة السمكية في دمياط، صلاح أبو جمعة، مصادر أخرى للتلوث وهي الصرف الصناعي من ميناء دمياط وكذلك الشركات من من المنطقة الصناعية بدمياط فيدخل التلوث لقناة البط ثم الرطمة ثم يدخل ذلك الصرف ممتزجاً بالمياه البحرية أثناء عملية الري للمزارع السمكية. 

لا يُنكر صلاح أبو جمعة، الدور الذي لعبته هيئة الثروة السمكية في السنوات السابقة من تطهير وعمليات تكرير للتخلص من التلوث المجاري المائية المتمثلة في قناة الرطمة وقناة الصوبارة وقناة البط ولكن يؤكد صلاح أنه رغم كل هذه الجهود فإن التلوث لم يتوقف حتى الآن لعدم وقف محطات الصرف الصحي إلقاء مياها غير المعالجة في القنوات المائية.

خريطة تفاعلية توضح محطات الصرف الملوثة

تمتزج العوامل البشرية مع العوامل الطبيعية -ارتفاع درجات الحرارة- فيكون الأثر مُضاعفاً. إذ يقول الرئيس الأسبق لهيئة الثروة السمكية بدمياط صلاح أبو جمعة  إنّه لا يمر عام في دمياط دون  نفوق للأسماك، ويضيف شارحا:”عملية النفوق تكون جبارة. تموت الأسماك التي يتعب المزارعين على تربيتها أكثر من 20 شهر بين ليلة وضحاها”.

قد ذكرت دراسة حديثة عن تأثيرات تغير المناخ على بحيرة المنزلة أنه من الممكن أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة درجة حرارة الماء، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تغييرات في النظم البيئية للبحيرة وكذلك تغييرات في إنتاجية الأسماك. كما أن التغيرات في ملوحة الماء قد تؤدي إلى تأثيرات بيئية جمّة على البحيرة ومصايد الأسماك، ومن المحتمل أن تصبح البحيرة غير مناسبة لتربية أنواع كثيرة من الأسماك مستقبلاً.

ارتفعت درجات الحرارة في مصر بمعدل 0.1 درجة مئوية لكل عقد في المتوسط ​​بين الفترة 1901-2013 ، حسب البنك الدولي. وتوقّع هذا الأخير ارتفاع المتوسط السنوي لدرجات الحرارة بنسبة 3% في السنوات القادمة، مما سيكون له أثر كبير على الكائنات البحرية. وقد تكون الأسماك حساسة بشكل خاص لتقلبات درجات الحرارة الناتجة عن تغير المناخ لذلك فمن المتوقع حدوث عمليات نفوق شديدة ومتزايدة بسبب الارتفاع الغير مسبوق لدرجات الحرارة.

 

سمك بمياه الصرف الصحي

يقول حسام وفدي شيخ الصيادين بعزبة البرج في دمياط إن التلوث الناتج عن الصرف الصحي إن لم يؤدي إلى نفوق الأسماك فإنه يؤثر بشكل كبير على انخفاض العملية الإنتاجية ونقص حجم الأسماك. 

ويعتقد وفدي أن المشكلة الأكبر هو طول دورة الإنتاج الواحدة لأسماك المزارع السمكية بدمياط. ذلك أن المنطقة لا تصلح إلا لزراعة الأسماك البحرية ذات التكلفة العالية فقط، وتحتاج الأسماك من 20 إلى 30 شهرا حتى تنمو. يتكبد المُزارع/مربي الأسماك خلال تلك المدة مصاريف  ضخمة. 

تنقسم تكلفة تربية الأسماك، كما يشرح الرئيس الأسبق لرئيس هيئة الثروة السمكية، صلاح أبو جمعة، بين تكاليف  الزريعة و العلف، والمواد البترولية التي يستخدمها المزارع في الماكينة المستعملة في رفع المياه والعمالة في المزرعة وأخيراً إيجار أرض المزرعة من الثروة السمكية الذي زاد أربع أضعاف في الفترة الآخيرة. 

“بعد كل تلك التكاليف يخسر المزارع أسماكه وأمواله، بسبب عدم معالجة مياه الصرف الصحي وموجات الحر الشديدة. وإن لم يكن ذلك فإن التلوث بالصرف يؤدي إلى انخفاض حجم الأسماك” يروي أبو جمعة.

قلت أحجام الأسماك التي أعتاد مربو شطا تربيتها من 500 جرام إلى 150 – 200 جرام، وبدلا من أن يكون الكيلو الواحد عبارة عن سمكتين، بعد التشبع بالتلوث يصبح 4 أو خمس سمكات وكل ذلك له خسارة يتكبّدها مربّو  الأسماك.

اعتاد علي فيالة في سنواته الأولى في المزرعة أثناء عمله مع أبيه على الحصول على 4 طن أسماك من الفدان الواحد، أما الآن فلا يكاد الإنتاج يتخطى حدود الـ 50 إلى 80 كيلو. يحتوي الكيلو الواحد حوالي 3 سمكات.

تبلغ مساحة مزرعة آل فيالة 44 فدانا. ورث الأخوان علي  وحسانين إضافة إلى 4 أخوة آخرين المزرعة والمهنة من أبيهم، لم يعرفوا حرفة لهم غير تربية الأسماك البحرية داخل مزرعتهم. 

يستذكر حسانين، الأخ الأصغر لـ “علي” ، الخير الوفير الذي كانت توفره لهم المزرعة: “كان عمري 6 أعوام عندما بدأ أخي الأكبر العمل في المزرعة، كان أبي يمنعني من الذهاب معه من أجل استذكار دروسي ولكني كنت أحفظ الطريق إلى المزرعة واذهب لمساعدة أبي وأخي لأني أحب مشاهدة نمو السمك أمام عيني يوميا”  لكن مرّبي الأسماك يصاب اليوم بالإحباط كلّما عاين الحالة التي وصلت لها المزرعة. ” لا أسامح نفسي بسبب عدم قدرتي على الحفاظ على الإرث الذي تركه أبي لنا”.

تصيب مياه الصرف الصحي الأسماك بالأمراض الفيروسية والبكتيرية والفطرية وتسبب لها أوراما خبيثة، وفق منظمة الأغذية والزراعة (FAO).

تفيد إحصائية الإنتاج السمكي في مصر الصادرة عن جهاز التعبئة والإحصاء المصري بتراجع إنتاج المزارع السمكية في دمياط، فوصل عام 2019 إلى 256667 طن، بينما في عام 2018 وصل لـ 264599 طن، رغم أن  عدد المزارع السمكية  في محافظة دمياط زادت من 42679 مزرعة في 2018 إلى 62701 مزرعة في 2019. يتوزع العدد بين مزارع أهلية سواء إيجار أو مؤقتة ومزارع حكومية.

يقول أستاذ الاستزراع السمكي بجامعة الأزهر د. محمود خيري إن تلوث الأسماك له مستويات مختلفة من حيث التأثير. حيث يؤثر على الأسماك بالتسبّب في موتها أو تأخر نموّها أو تعريضها لأمراض شتّى وبالتالي تبديد المزارعين خسائر كبيرة في الإنتاج.

أمّا تأثيره على الإنسان فيكون بتعريضه لعدّة أمراض، ذلك أن بعض الملوثات (المعادن الثقيلة) لا تموت خلال الطهي السريع للأسماك ممّا يجعلها تنتقل إلى جسم الإنسان لتكمل حياتها بداخلة مُسبّبه له الكثير من الأمراض. لذلك منظمة الصحة العالمية وضعت حدود معينة للمعادن الثقيلة التي تتواجد في أجسام الأسماك، في حال تخطيها تُصبح غير صالحة للاستخدام الآدمي، لأنها بالتأكيد ستؤذي من يتناولها.

أخضعت معدة التحقيق عينات أسماك ومياه وتربة للفحص المخبري في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. حيث جمعت عينات من المياه في المنطقة المحيطة بمحطات الصرف الصحي التي يتم بها ري المزارع، والمياه التي تعيش فيها الأسماك في مزرعة آل فيالة، و عينات أخرى من تربة المزرعة واسماكها. 

أظهرت نتائج التحاليل تجاوز نسبة المعادن الثقيلة السمّية في المياه والتربة والأسماك للحدّ  المسموح به للاستخدام الآدمي، بمعايير منظمة الصحة العالمية والاتحاد الأوروبي.  للاطلاع على نتائح التحليل

يؤكد أستاذ العلوم البحرية ورئيس معمل معهد علوم البحار والمصايد فرع قناة السويس الذي أجرى  التحليل، خالد المصلحي، مخالفة مصارف الصرف الصحي في دمياط للمواصفات البيئية. ويقرّ بخطورة تناول هذه الأسماك وتداولها  لأنها تعيش في وسط سُمي غير صحي وهو ما أكده التحليل. ذلك أنّ ارتفاع المعادن الثقيلة في المياه والأسماك مثل الحديد والكادميوم والحديد والنيكل والفوسفات والمنجنيز من شأنه إصابة الأسماك وأكاليها والعاملين في المزارع السمكية بالكثير من الأمراض.

العناصر والأمراض التي تسببها

ممنوع التصدير

يشرح محمد مبروك، أستاذ الاستزراع السمكي بكلية العلوم جامعة الأزهر، أنه بسبب التلوث وتركز المعادن الثقيلة السمية أنسجة الأسماك وعضلاتها، فإن بعض الدول ترفض استيراد الأسماك من مصر بسبب تلوثها وتضعها على قوائمها السوداء. 

وقد جرّم قانون صيد الأسماك والأحياء البحرية رقم 124 لسنة 1983 استخدام مياه النيل في الاستزراع السمكي في حال تربية أسماك مياه عذبة. 

يتساءل أستاذ الاستزراع السمكي كيف لدولة أن تثق في أخرى يجبر قانونها أصحاب المزارع السمكية على استخدام مياه الصرف الصحي في تربية الأسماك العذبة؟!

كان قرار إداري صادر في 27 نوفمبر 2021 عن الحجر البيطري المصري رقم 667 لسنة 2021، قد قضى بوقف صادرات مصر من الأسماك لدول الاتحاد الأوروبي، إلى حين إصدار شهادات الصحة المصاحبة للأسماك المصدرة لتنفيذ التوصيات المطلوبة من المفوضية الأوروبية. 

جاء ذلك القرار بعد صدور ملاحظات من الاتحاد الأوروبي حول الأسماك في مصر لعدم مطابقتها لمعايير الاتحاد الأوروبي. حتى أن الوزير المفوض ناصر حامد، مدير ادارة الاتحاد الأوروبي بجهاز التمثيل التجاري، قال إن تلك الملاحظات قد تهدد بصدور قرار بحظر استيراد الأسماك من مصر.

ماجد البدراوي، رئيس شعبة الأسماك بالغرف التجارية بمحافظة دمياط، يقول قد تكون أسباب وقف التصدير للدول الأوربية هو تلوث الأسماك بسبب الصرف، إذ أن الدول الأوربية صارمة في الحدود المسموح بها. 

يضيف البدراوي أن أنواعا معينة فقط تُصدّر للدول الأوربية مثل الدنيس والقاروص والطوبار، وهي الأنواع التي يتم زراعتها في منطقة شطا. أما الدول العربية فتستورد من مصر الأنواع الأقل جودة وهي البلطي والبوري. 

 

لزاماً علينا الرحيل

لا يبدو أن هموم آل فيالة تعرف حدّا. فقد تضاعفت القيمة الإيجارية لمزرعتهم السمكية خمسة أضعاف. إذ قرر رئيس الوزراء عام 2018 بإنهاء عقود الإيجار الخاصة بـ 1300 مزرعة سمكية في منطقة شطا في دمياط ينتفع منها أكثر من 300 ألف نسمة من سكان قرى محافظة دمياط. 

لم يجد أصحاب المزارع السمكية حينذاك بدّا من استكمال العمل في مزارعهم فهي مصدر رزقهم الوحيد، لكنّهم لم يكادوا يتجاوزون الصدمة الأولى حتى فوجئوا برفع القيمة الإيجارية للفدان الواحد من 500 جنيه إلى 3 آلاف جنية. وهكذا أصبحوا مربو الأسماك في منطقة مثلث الديبة بدمياط مُدانين للهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية بأكثر من 130 مليون جنيه.

يقول حسانين فياله:” أصبحنا مُدانين للثروة السمكية بمديونية 3 سنوات بما يعادل 132 ألف جنيه في السنة. لا أعلم كيف يمكننا تسديد هذا المبلغ وأسماكنا تموت يومياً بسبب التلوث.”.

يصف الرئيس الأسبق لهيئة الثروة السمكية في دمياط، صلاح أبو جمعة، قرار رفع القيمة الإيجارية بالظالم والجائر في حق مربّي  الأسماك في دمياط، لأن “الأمر فُرض عنوة و دون أي دراسة”، حسب تعبيره. 

يوافقه خالد عاشور، محامي أصحاب المزارع المتضررة، مبيّنا أنّ أكثر من 95% من أصحاب المزارع في دمياط مدانون بمبالغ ضخمة للهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية، ولا يستطيعون تسديدها.  ويشرح أنّ  القيمة الإيجارية لا تتناسب مع الدخل والعائد المادي من المزرعة بسبب التلوث مع عدة عوامل أخرى كارتفاع سعر السولار(الديزل) و أسعار الكهرباء. 

يضيف المحامي  أن تلك المزارع أنشئت بموجب قانون رقم 24 لسنة 1983 الذي يمنح الحق للمواطنين في إنشاء المزارع السمكية على سواحل بحيرة المنزلة، مع فرض مقابل للإيجار كحق انتفاع. “تلك الأراضي كانت جافة ولا تصلح للصيد الحر فقام بتعميرها أصحاب المزارع منذ عشرات السنوات”، يقول عاشور، مبيّنا أنه من الطبيعي زيادة الإيجار على المنتفعين من المزارع السمكية إلاّ أنّ  زيادته  بخمسة أضعاف مرة واحدة قرار خاطئ، “لأن هؤلاء  الناس في الأساس يعانون  أشد المعاناة  بسبب التلوث.”

قرّر الكثير من المستأجرين التخلّي عن مزارعهم لفائدة الهيئة العامة للثروة السمكية والتوقف عن العمل. ولكن حتى قبل تسليم المزارع تطالبهم الهيئة العامة بتسديد ديون الفترة البينية(الفترة الفاصلة بين إيقاف العقود وعودتها) أولاً وإلاّ فإنّ مصيرهم السّجن. 

محمد نعيم واحد من هؤلاء، في الثامن عشر من أغسطس لعام 2021، تخلى عن مزرعة أبيه السمكية في منطقة الساحل في شطا بدمياط، بعدما دفع ديونها التي وصلت إلى (250 ألف جنيه) حوالي 15 ألف دولار. 

لم يكن تجميع المبلغ المُدان به والده أمرا هيّنا، فقد باعت أمه وأخته “الذهب” الخاص بهما، حتى لا يعاقب أحد أفراد العائلة. 

المنطقة التي تقع فيها المزرعة ملوحتها عالية إذ تصل لـ 70 جزء في الألف ولا تصلح لتربية الأسماك. فوق ذلك، بعدما زادت القيمة الإيجارية للفدان الواحد أربع أضعاف، أصبح نعيم عاجزاً عن استكمال مشروع أبيه. 

أثناء إخلاء المزرعة حتى يتم تسليمها للهيئة العامة للثروة السمكية، وثّق نعيم ذلك بالصور والفيديو، خشية أن تطالبه الهيئة فيما بعد بديون أخرى. للاطلاع على المستند

يصف النائب البرلماني، ضياء الدين داود، رفع القيمة الإيجارية بالعبث، حيث أن القيمة غير متساوية، حددتها الهيئة على حسب المكان وقربه من البحر المتوسط والتلوث. وهذا غير منطقي وغير عادل. 

مثلاً مزرعة محمد نعيم الملوثة زادت قيمتها الإيجارية من 300 جنيه إلى 2500 جنيه. إذ يقول نعيم إن هذا القرار زاد الفقير فقراً والغني ثراءً. 

يقول رئيس شعبة الأسماك بدمياط، ماجد البدراوي، في رده على معدة التحقيق، إن المزارع السمكية بشطا هي الأنظف على مستوى الجمهورية، فالتلوث في المنطقة ينحصر في ثلاث أو أربع محطات صرف صحي فقط، أما المزارع في المحافظات الأخرى فتتلوث بمحطات صرف صحي لخمس محافظات مثلا. 

ويرفض البدراوي اعتبار التلوّث سببا لنفوق الأسماك، زاعما أنّ السبب هو جهل المزارعين، إذ يقول إن المزارع يمتلك خبرة قليلة لا تمكنه من العمل في المزرعة، ويضرب مثلا على ذلك أن مربي الأسماك يزرع في الحوض الواحد 5 طن مثلا، والحوض يكفيه طن واحد، ويصف ذلك بالجشع والطمع، لذلك يكون مصير الأسماك هو النفوق. 

ردّ لن يغني حسانين فيّاله عن جوع ولن يحمي أسماكه من مصير قاتم. فبينما يتساءل حسانين كيف يمكنه النوم وهو مُدان بأكثر من نصف مليون جنيه للثروة السمكية، يقف أخوه  عليّ وسط مزرعتهم السمكية واضعا  أدوية الأسماك في محاولة  لإنقاذها. 

تفشل كل محاولاته في يوم صيفي شديد الحرارة لا تتحمّله الأسماك المختنقة بالفعل من التلوّث. فتطفو مُستسلمة على سطح الماء واحدة تلو الأخرى. ليس هذا سوى يوم مأساوي جديد  في حياة مستأجري المزارع السمكية في منطقة شطا بدمياط.

 

سموم التنمية تحاصر القابوطي

لاحت تباشير الفجر في بورسعيد. هبّ عبّاس زكريا في الحين من فراشه كما اعتاد كلّ يوم منذ خمسة وثلاثين عاماً. هنا القابوطي، المعروفة بقرية الصيادين. منذ تعلّم عبّاس حرفة الصيد عن والده وهو لا يزال في سنّ العشرين، لم يتخلّف يوما عن التوجّه إلى الصيد فجرا والعودة ظهرا إلى البيت. كانت شباكه لأكثر من عقدين عامرة بكلّ خير. “البحر كريم، وعبّاس يستاهل”. أو هكذا كان الحال قبل تبدّله. 

 ترتسم البسمة على شفتي العمّ عبّاس وهو يسترجع أيام الخير. لكن سرعان ما يعلو العبوس وجهه إذ يتذكّر ما حلّ بالمنطقة من مصائب. صارت مياه القابوطي بلون أزرق قاتم كئيب، وهجر معظم صيّاديها المنطقة. الأسماك هي الأخرى هجرت القابوطي بسبب التلوث. تصرف مصانع وشركات كائنة بمنطقة “الاستثمار” مخلّفاتها في قناة القابوطي المتّصلة ببحيرة المنزلة. مصانع متخصّصة في إنتاج الكيماويات أو الزيوت أو الأقمشة. اختلفت الصناعات والموت واحد في القابوطي.

تقع منطقة القابوطي بين الضفة الشمالية لقناة الرسوة التي تصل بين بحيرة المنزلة وقناة السويس، والضفة الغربية للقناة الداخلية الواصلة إلى قلب بورسعيد، والضفة الشرقية للسان الملاحي المشقوق شقا فى بحيرة المنزلة.

يعمل معظم قاطنيها في الصيد حتى أنها سُمّيت بقرية الصيّادين. حين تطأ أقدامك  أرض القابوطي يعترضك قارب أمام كلّ بيت. ولكن تظهر صور الأقمار الصناعية قوارب الصيادين حاليا في منطقة القابوطي متراصة دون حركة على السواحل منذ سنوات.

 

صور الأقمار الصناعية التي تظهر وقوف قوارب الصيادين منذ سنوات

“كان البحر يضحك لنا. كنت أصطاد في اليوم الواحد 100 كيلوغرام من السمك. أما الآن لم يعد هناك أسماك، أضطر للذهاب إلى العمل في منطقة أخرى بعيدة عن القابوطي هي أيضا ملوّثة ولكن بدرجة أقلّ.”.،يحكي لنا  عباس،  متسائلا عن السبب الذي يجعل شخصاً يتحمل مهنة الصيد بكل مشاكلها.، غير أنه لا ينتظر ردّا. “ما باليد حيلة”.  

 يرى عباس مياه الصرف تتدفّق كل يوم من المصانع. المهنة التي أحبها عباس وعشقها إخوته يتمنى ألاّ يرثها أولاده. “بحلم إن ربنا ميوريش شغل الصيادين لحبايبي وعيالي”.

قام الباحثان نبيل عزاز ومختار بشيري بجمع عينات من المياه والرواسب من القناة الملاحية والمنطقة الصناعية جنوب بورسعيد (منطقة القابوطي) لتقييم التلوث بالمعادن الثقيلة. تبين لهما أن أعلى متوسط ​​تركيز للمعادن الثقيلة في عينات المياه لوحظ في الصيف و أن المصانع الموجودة في المنطقة الصناعية جنوب بورسعيد هي  المسؤولة عن الأوضاع الحالية المتدهورة. وذلك وفقا لدراسة منشورة عام 2018 في المجلة الآسيوية للمصايد والبحوث المائية.

يؤكد الباحثان في دراستهما أن المعادن الثقيلة الموجودة في البيئة المائية بمنطقة القابوطي سامة وغير قابلة للتحلل في البيئة وسهلة التراكم والتضخم في الكائنات الحية وزادت بشكل كبير بسبب مدخلات النفايات الصناعية. حيث تؤثر المعادن الثقيلة السامة، على النظام الإيكولوجي وتحديداً التراكم الأحيائي.

البرلمان يسأل

في يوليو 2019، تقدم النائب البرلماني خالد أبو طالب بطلب إحاطة ضد مصنع تي سي سيمنار، الموجود بالمنطقة الصناعية ببورسعيد بسبب صرفه الصناعي غير المعالج في منطقة القابوطي. أشار النائب حينها إلى أن مصنع الكيماويات هذا إضافة إلى 5 مصانع أخرى يلقون بكمية صرف صناعي تبلغ مليون ونصف المليون متر مكعب يوميًا، دون معالجة في بحيرة المنزلة، مما يضر بالثروة السمكية.

في الرابع من أغسطس 2021، تكرر نفس طلب الاحاطة حيث قدّم النائب البرلماني حسن عمار، طلب احاطة إلى كل من رئيس مجلس الوزراء، ووزيرة البيئة، بشأن التلوث الناتج عن مصنع الكيماويات تي سي سيمنار. عمّار أشار بدوره إلى أن المصنع يُعرّض أهالي منطقة القابوطي إلى كافة أنواع التلوث البيئي ممّا يضرّ بالصحة العامّة للمواطنين، فضلا عن تكرّر حوادث اختناق العمال بالمصنع ذاته وعدم استيفائه شروط الأمن والسلامة المهنية.

يقول النائب حسن عمار لمعدة التحقيق، إن مصنع الكيماويات يؤثر على قاطني منطقة القابوطي البالغ عددهم 40 ألف أسرة يعمل معظمها في مهنة الصيد. فالغازات المنبعثة من المصنع تؤدّي إلى إصابة الأهالي بأمراض صدرية وتنفسية، والصرف الصناعي للمصنع في منطقة قناة الاتصال الرابطة بين بحرية منزلة وقناة السويس تقتل الأسماك فتفقد الصيادين قوت يومهم. للاطلاع على مستند طلب الإحاطة

 

وفقا للصياد الخمسيني، عباس زكريا، فإن أعداد الأسماك في منطقة القابوطي تراجعت بشكل كبير، بل أحيانا لا يكون هناك أسماك من الأساس.، ويضيف أنّ  أن أنواع أسماك كثيرة اختفت من المنطقة مثل الحشمان والبوري والقاروص وسمك موسى والكابوريا. 

تؤكد النشرة السنوية لإحصاءات الإنتاج السمكي الصادرة عن جهاز التعبئة والإحصاء المصري ، حديث عباس، حيث أن حجم الأسماك التي تم اصطيادها من منطقة القابوطي تراجعت بشكل ملحوظ. 

مصنع الموت

يعد مصنع تي سي سيمنار، أحد أكبر مصانع الكيماويات والكلور في مصر، والتي تستخدم في تنقية مياه الشرب. تتجاوز استثمارات المصنع  1.2 مليار دولار، ما جعله يوصف بأكبر إستثمار هندي في مجال الصناعات الكيميائية في مصر. تأسس تي سي سينمار  في عام 2002 بواسطة شركة “تراست”  الهندية، وتم بيعه لمستثمر هندي في عام 2007. تم في وقت لاحق تحويل النشاط الأساسي إلى مصنع للكيماويات والبتروكيماويات، تحت إدارة هندية. لكن سرعان ما بدأت تظهر إخلالات في أعمال الصيانة ومعدّل الأمان منذ عام 2011، وفقا لملفّ قضية ضدّ المصنع  حصلت معدة التحقيق على نسخة منها.

قدّم أحمد يوسف، أحد سكان منطقة الحي الإماراتي ببورسعيد المجاور لمصنع تي سي سيمنار، الكثير من الشكاوي ضد المصنع منذ 2017، وذلك بسبب الانبعاثات السامة التي تصدر عنه وكذلك صرفه في بحيرة المنزلة. قام يوسف أيضا بتدشين حملة الكترونية ضد المصنع لتوثيق جرائمه البيئية. 

يقول يوسف  إنّ أهالي منطقة القابوطي والحي الإماراتي على وجه الخصوص يعانون أشد المعاناة بسبب التلوث. “نستيقظ يومياً على رائحة شديدة للكلور الخام، حتى أنه عام 2017 حصلت حالات اختناق كثيرة للأطفال في المنطقة.”

ولكن الثمن الأكبر للتلوث يدفعه الصيادون في منطقة القابوطي، فيضاف على الأثر السابق تدمير الثروة السمكية، إذ وثّق كثير من الصيادين بكاميرات هواتفهم صرف المصنع المواد الملوثة في الممر المائي (منطقة القابوطي) الذي  يربط بحيرة المنزلة بقناة السويس.

ينتج مصنع سيمنار عددا من الموادّ الملوثة على غرار الصودا الكاوية والكلور ومياه الأكسجين والايثلين المشتق من الايثانول والايثانول داي كلوريد وغيرهم. جميعها يتمّ صرفها في البحيرة الواقعة في نطاق بورسعيد. رفع المحامي  أحمد محمد عامر بدوره قضية أخرى ضدّ المصنع حملت  رقم 333 لسنة 6 القضائية، وتعلّقت بخطورة المصنع على الصحة العامة للمواطنين، جاء حكم المحكمة في جلسة بتاريخ 21 نوفمبر 2018 بضرورة انتداب خبير بيئي للمعاينة ولمعرفة مدى مطابقة الصرف الصناعي من المصنع للحدود المسموح بها في قانون البيئة المصري. للاطلاع مستند حكم القضية

يقول المحامي أحمد عامر – الذي رفع قضية ضد مصنع تي سي سيمنار- إن التلوث الذي يخرج من المصنع لا يؤثر فقط على منطقة القابوطي أو الحي الإماراتي، بل يطول محافظة بورسعيد بأكملها، إذ أن تلوث الهواء الناجم عنه من الممكن أن يؤذي أحياء أخرى، وكذلك الصرف الصناعي له في قناة القابوطي يؤثر على كل متناولي السمك من المنطقة. 

تُعتبر القضية التي رفعها المحامي أحمد عامر ضد المصنع، هي الأولى من نوعها. يقول عامر إن القضية كادت بالفعل أن تنجح ويؤخذ قرار وفقاً للأوراق التي جمعها وتدين المصنع، ولكن تأخر الخبير البيئي المنتدب من قبل المحكمة في الرد، هو السبب في تأخير إصدار الحكم حتى الآن.

عباس زكريا وزملاؤه القلائل المتبقين ممّن مازالوا يعملون في مهنة الصيد في قرية القابوطي، اتجهوا للعمل في منطقة أشتوم الجميل (جزء من بحيرة المنزلة) لعلهم يجدون أسماكا يستطيعون بيعها بعدما قضى الصرف الصناعي على أسماك القابوطي، لكن الصرف يسبقهم إلى هناك، فالأمواج العاتية تحمل الصرف إلى من القابوطي إلى الجميل.

 

التلوث يحاصرنا

في منطقة أشتوم الجميل ببورسعيد، يعيش التميمي أبو المجد منذ ما يقارب ستين عاماً. يعمل التميمي في صيد السمك مع أولاده الثلاثة.، قضى في بحيرة المنزلة أكثر من ثلاث أرباع عمره. شهد على أيام مجدها و تدهورها ومحاولات إصلاحها. 

رغم أن التميمي لا ينتمي إلى محافظة بورسعيد، إلا أنه لا يعترف بمدينة  غيرها. ولد التميمي في مدينة المنزلة التابعة لمحافظة الدقهلية.، عمل صياداً منذ صباه.  جاب بقاربه الصغير كلّ أرجاء مصر يُلقي شباكه في مياهها العذبة والمالحة. لكنه وجد ما يبحث عنه في منطقة أشتوم الجميل في عرض البحر.فوضع فيها رحاله. 

يبدأ يوم التميمي في الثانية بعد منتصف الليل  يخرج لاصطياد السمك، ثمّ يعود ليبيعه إلى التجّار. وعند الساعة الثامنة صباحا، يجلس ليرقّع الشباك ويصلح ما تلف منها. 

دمّرت مخلّفات المصانع المكان الذي يعتبره التميمي محور حياته. “البحيرة ماتت من التلوث. الدولة نفسها تعاني من أصحاب المصانع. تدفع مليارات سنوياً لاصلاح المخلفات ولكن تعود المصانع من جديد وترمي مخلفاتها”. 

تخرج شباك الصيّاد السبعيني محمّلة بنحو 10 كيلوغرام من السّمك. يضطرّ إلى التخلّص ممّا يقارب الـ8 كيلوغرام من بينها لأنّها أسماك ميّتة بالفعل. “السمك بيطفش، لأن المياه شبه مياه المجاري”. ما استطاع من الأسماك الهرب إلى مكان أرحم فيهرب. وأمّا من عجز عن ذلك، فمصيره الموت. ” . 

يبيع التميمي الكيلوغرام الواحد بثلاثة جنيهات. فيصل دخله اليومي بذلك إلى 6 جنيهات.يتساءل: “كيف لست جنيهات أن تعيل أسرة من ست  أبناء؟” 

سحبت معدة التحقيق عينات من المياه والتربة والأسماك في منطقتي الجميل والقابوطي، لتجد أن نسب التلوث في كل العينات تتخطى الحدود الدولية المسموح بها وكذلك الحدود التي أقرّها قانون البيئة المصري. 

لكن منطقة القابوطي كانت أكثر تلوثاً من الجميل. يُفسر الدكتور خالد المصلحي، أستاذ البيئة البحرية والمسؤول عن تحليل العينات ذلك بقرب منطقة الجميل من البحر المتوسط المفتوح، ممّا يسمح بتجديد مياه المنطقة من خلال بوغاز الجميل. 

تقول مها غانم رئيس مركز السموم السابق بكلية طب الإسكندرية، إن المعادن الثقيلة هي عناصر تحدث بشكل طبيعي ولها وزن ذري مرتفع وكثافة أكبر بخمس مرات على الأقل من كثافة الماء. لها تأثيرات على صحة الإنسان والبيئة. تعتمد سميتها على عدة عوامل بما في ذلك الجرعة وطريقة التعرض والأنواع الكيميائية، بالإضافة إلى العمر والجنس والوراثة والحالة الغذائية للأفراد المعرضين. بسبب درجة سميتها العالية، يحتل الزرنيخ، والكادميوم، والكروم، والرصاص، والزئبق مرتبة بين المعادن ذات الأولوية ذات الأهمية الصحية العامة. 

وتضيف، تعتبر هذه العناصر المعدنية من المواد السامة الجهازية المعروف أنها تسبب تلفًا لأعضاء متعددة، حتى عند مستويات التعرض المنخفضة. تم تصنيفها أيضًا على أنها مواد مسرطنة للبشر (معروفة أو محتملة) وفقًا لوكالة حماية البيئة الأمريكية، والوكالة الدولية لأبحاث السرطان.

لا يزال التميمي الذي فقد معظم أصدقائه بسبب المرض والتلوث متشبثاً بالبحيرة، فليس لديه مصدر دخل بديل عنها.

ينتهي أسبوع العمل عند الصياد السبعيني يوم الخميس صباحاً، ليسافر إلى عائلته في احدى القرى التابعة لمدينة المنزلة في الدقهلية. يحمل التميمي في يده حفنة من الجنيهات، يعطيها لزوجته. بالكاد تكفيها مصروف يوم أو اثنين.  

يذهب الرّجل بعد ذلك لملاقاة أصدقائه الصيادين الذين تقاعدوا قسراً من العمل في البحيرة بسبب التلوّث والمرض.. 

الهجرة والمرض

عمل مالك خضر في بحيرة المنزلة لأكثر من 20 عاما. ومع إنه لم يتجاوز سنّ الـ45 عاما، فقد اضطرّ بالفعل إلى التقاعد بسبب إصابته بالفشل الكلوي. 

يخضع مالك لجلستي غسيل كلى كلّ أسبوع. يتكبّد خلالها تكاليف ضخمة لإصلاح ما أفسده تلوّث البحيرة في جسده. يخشى  مالك أن يلقى مصير عمه الصيّاد في بحيرة المنزلة والذي أصيب هو الآخر  بفشل كلوي  قبل أن يلقى حتفه في 2018. 

محمد أبو السادات، جار مالك في نفس القرية كان يعمل صياداً بمنطقة الجميل ببورسعيد قبل أن يُجبر عن التوقف عام 2020 بسبب إصابته بالفشل الكلوي. يملك السادات ثلاث أبناء ولدان (12 و15 عام) والإبنة الكبرى مخطوبة، لا يعرف كيف يستطيع تجهيزها لعرسها بعدما فقد عمله بسبب خضوعه لغسيل كلى ثلاث مرات أسبوعياً. 

يؤكد الصيادان التميمي وعباس أنهما يعرفان عشر صيادين على الاقلّ أصيبوا بفشل كلوي وأمراض أخرى بسبب تعرضهم لمياه الصرف الملوثة.

وقد أكّدت دراسة أجراها فريق بحثي أن الصرف الصناعي والصحي في البحيرة هو سبب مباشر في  ارتفاع مستويات المواد السامة مثل الرصاص والكادميوم والزئبق والتي قد تكون بدورها مسبّبا رئيسيا لأمراض الكبد والقلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والبولي والجهاز العضلي الهيكلي وحساسية الجلد للصيادين. 

أخضع مائة صيّاد يعملون في بحيرة المنزلة ومائة آخرون لا يعملون بها إلى الفحص السريري في إطار الدراسة المذكورة.  أظهرت نتائج الفحص أن الصيادين الذين يعملون ببحيرة المنزلة  يعانون العديد من المشاكل المتعلقة بالقلب والأوعية الدموية والجهاز الهضمي والجهاز البولي، كما أن السمية الكبدية كانت واضحة لديهم مقارنة بالصيادين الآخرين الأصحّاء.

تقول د. إيمان عبد المنعم، مدير مركز السموم بكلية طب جامعة القاهرة، إنّ التعرض المستمر لمياه الصرف الصناعي أو الصحي أو الزراعي من شأنه إصابة الكثير من الصيادين بالأمراض التي تنتشر عن طريق المياه غير المأمونة مثل الكوليرا والجيارديا والتيفوئيد. وفي حال تبخر مياه الصرف من الممكن أن يصابوا بالالتهاب الرئوي. 

ينتهي الآن التميمي أبو المجد من عمله في منطقة الجميل، يتجه إلى قريته التابعة لمدينة المنزلة، يطمئن على مالك وأصدقائه الذين أقعدهم المرض على سرير واجبرهم التلوث على عدّ أيامهم المتبقيّة. 

أما عباس زكريا فيستمرّ في رحلة البحث عن عمل جديد بعدما أعدمت مخلّفات المصانع مصدر رزقه. صار كلّ همّه الآن أن يجد عملا بعيدا عن البحيرة حتى لا يلاقي مصير مالك وغيره من الصيّادين المنكوبين. 

أنجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة كانديد

تحقيق: إيمان منير

فوتوغرافيا: علي زرعي

فيديو: شروق غنيم

رسوم: أحمد بيكا

 

قد يعجبك ايضا
اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.