نيويورك: الأمين العام للأمم المتحدة
إننا نعيش في أوقات عصيبة. فأزمة المناخ، وأوجه عدم المساواة الصارخة، والنزاعات الدموية، وانتهاكات حقوق الإنسان، والدمار الذي أصاب الأشخاص والاقتصاد بسبب جائحة كوفيد-19، كلها أمور وضعت عالمنا تحت ضغط أكبر مما واجهه في أي وقت مما مر من حياتي.
غير أن التهديد الوجودي الذي ألقى بظلاله على النصف الأول من حياتي لم يعد يحظى بالاهتمام الذي ينبغي أن يحظى به. فلقد توارى ذكر الأسلحة النووية من العناوين الرئيسية واختفت من نصوص أعمال هوليوود. يحدث ذلك بينما خطر هذه الأسلحة لا يزال على ما كان عليه من الحدة، بل تزيد تلك الخطورة عاما بعد عام. فيكفي سوء فهم واحد أو سوء تقدير لتحدث الإبادة النووية – إنه سيف ديموقليس المنذر ليس فقط بواقع مروع من المعاناة والموت، بل أيضا بنهاية الحياة، كل الحياة، على وجه البسيطة.
ومنذ أن أُحرقت هيروشيما وناكازاكي في عام 1945، ما حال دون استخدام الأسلحة النووية سوى الحظ تارة، وحسن التقدير تارة أخرى. ولكن إلى متى سيصمد حظنا هذا وأكثر من 000 13 من الأسلحة النووية مكدسة في الترسانات العسكرية في شتى أنحاء العالم؟ وهذه جائحة كوفيد-19 نبهتنا أخيرا لندرك هول الكارثة التي يمكن أن تنجم عن حدث بعيد الاحتمال.
وبعد نهاية الحرب الباردة، خُفض كثيرا من حجم ترسانات نووية، بل منها ما أُزيل. وثمة مناطق برمتها أعلَنت نفسَها مناطقَ خالية من الأسلحة النووية. وترسخ أيضا على نطاق واسع رفض عميق للتجارب النووية. فأنا لما كنت رئيس وزراء في بلدي، أمرت بأن تصوت البرتغال لأول مرة ضد استئناف التجارب النووية في المحيط الهادئ.
ولكن نهاية الحرب الباردة تركتنا أيضا في وهم خطير: أن خطر الحرب النووية صار شيئا من الماضي.
ما من شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الوهم. فهذه الأسلحة ليست مشكلة طواها الزمن. بل لا تزال إلى اليوم تهديدا متصاعد الخطورة.
وخطر استخدام الأسلحة النووية هو اليوم أشد منه في أي وقت مضى منذ تمارين الاختباء والاحتماء وملاجئ التساقط الذري التي شهدتها فترة الحرب الباردة.
وما يطبع اليوم العلاقات بين بعض البلدان الحائزة للأسلحة النووية هو انعدامُ الثقة والتنافسُ. وأما الحوار فمعدوم في معظم الحالات. والشفافية ماضية في انحسار، والأسلحة النووية أهميتُها في تزايُد إذ ترى استراتيجياتُ الأمن القومي في سياقاتٍ جديدةٍ مناسَبة لاستخدامها.
وفي الوقت نفسه، فإن أوجه التقدم التكنولوجي وظهور ساحات جديدة للتنافس في الفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي كشَفا عن نقاط ضعف وزادا من خطر التصعيد النووي. ونحن بحاجة إلى أطر وأدوات دولية قادرة على التعامل مع هذه التطورات. وتعدُّد الأقطاب اليوم في النظام العالمي مؤداه أن الأزمات الإقليمية التي تغشاها مسحة نووية تنطوي على خطر أن تجذب إليها بلدانا أخرى من البلدان الحائزة للأسلحة النووية.
فالمشهد النووي شبيه ببرميل بارود. ويكفي حادث أو سوء تقدير حتى يشتعل.
وأهم أسباب الرجاء في تغيير الوجهة والسير بعالمنا في طريق غير طريق كارثة الأسلحة النووية هي معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، المعروفة باسم معاهدة عدم الانتشار، والتي تعود إلى ذروة الحرب الباردة في عام 1970.
ومعاهدة عدم الانتشار هي أحد الأسباب الرئيسية لعدم استخدام الأسلحة النووية منذ عام 1945.
فهي تتضمن تعهدات ملزمة قانونا بتحقيق نزع السلاح النووي، بما في ذلك من قبل أكبر خمسة بلدان حائزة للأسلحة النووية. وهي أيضا حافز في اتجاه نزعِ السلاح، السبيلِ الوحيدِ لإزالة هذه الأسلحة المروعة كلها وإلى الأبد.
وقد تعهدت البلدان الـ 191 التي انضمت إلى معاهدة عدم الانتشار – وهي الغالبية العظمى من بلدان العالم – بعدم حيازة أو تطوير أسلحة نووية. وتتولى الوكالة الدولية للطاقة الذرية مراقبة هذه التعهدات وإنفاذها.
وبعد شهر من الآن، ستجتمع البلدان الأطراف في معاهدة عدم الانتشار في مؤتمرها العادي الذي يعقد كل خمس سنوات للنظر في التقدم المحرز في تطبيق المعاهدة.
وقد لا يبدو انعقاد مؤتمر آخر من مؤتمرات الأمم المتحدة بشأن معاهدة يكنى عليها باسم مختصر حدثا جديرا باهتمام إعلامي خاص. ولكن معاهدة عدم الانتشار معاهدة ذات أهمية حاسمة لأمن وازدهار جميع الشعوب على وجه الأرض.
ومن واجبنا أن نغتنم فرصة انعقاد مؤتمر استعراض معاهدة عدم الانتشار في كانون الثاني/يناير لتغيير اتجاهات خطيرة ومستفحلة والإفلات من الظلال القاتمة التي تلقيها هذه الأسلحة اللاإنسانية.
ويجب أن يتخذ مؤتمر استعراض المعاهدة إجراءات جريئة على ست جبهات:
– رسم مسار نحو نزع السلاح النووي.
– الاتفاق على تدابير جديدة للشفافية والحوار، للحد من خطر اندلاع حرب نووية.
– معالجة الأزمات النووية التي يغلي مرجلها في الشرق الأوسط وآسيا.
– العمل على تعزيز الأطر العالمية التي تدعم عدم الانتشار، بما في ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
– تعزيز الاستخدام السلمي للتكنولوجيا النووية في الأغراض الطبية وغيرها من الأغراض – فهذا أحد الأسباب التي جعلت معاهدة عدم الانتشار تنال انضمام الدول غير الحائزة للأسلحة النووية.
– تذكير الناس في العالم – وخاصة منهم الشباب – بأن إزالة الأسلحة النووية هي الطريقة الوحيدة لضمان عدم استخدامها أبدا.
وأنا أحث الحكومات على الإقبال على المؤتمر بروح من التضامن والحوار الصريح والمرونة.
فإن ما يحدث في غرف المفاوضات المتعلقة بمعاهدة عدم الانتشار في كانون الثاني/يناير أمر يهم جميع الناس، لأن أي استخدام للأسلحة النووية سيؤثر عليهم جميعا.
وما كانت هشاشة عالمنا قط أكثر وضوحا مما هي عليه اليوم.
وأرجو أن يقوم الناس في كل مكان بدفع الحكومات إلى الابتعاد عن شفير الهاوية وإقامة عالم أكثر أمنا وأمانا للجميع: عالم خال من الأسلحة النووية.