بقلم: لجين حاج يوسف وميس قات
لا تخلو الحروب من معارك جانبية سرية، فإضافةً إلى أضرارها على البشر والاقتصادات والحياة، توجّه شرورها نحو البيئة بشكل خطير جداً، عبر تدمير الأراضي الزراعية في البلدان، من خلال اقتلاع الأشجار وتحطيبها وتدمير أنظمة المياه و الصرف الصحي وتلويث التربة بالمعادن الثقيلة كالزئبق و الزرنيخ و الرصاص، والتي تبثها الأسلحة ومخلفاتها، وهي آثار قد تستمر لعقود، ملحقة ضرراً دائماً بالنظام البيئي والسكان.
يقول أمين*، وهو يستذكر منظر النيران وهي تلتهم أرضه: “سمعت ضجيج طائرة استطلاع… بدت قريبةً للغاية، كنت أعلم أنها ستسقط، لكنني لم أتخيل أنها ستصطدم بأرضي ومزروعاتي”.
حاول أمين على الفور إخماد النيران لينضم إليه جيرانه وبعض المارة، إلى أن وصل الدفاع المدني أخيراً (الخوذ البيضاء في سوريا) لإطفاء الحريق. إلّا أن ذلك لم يكن كافياً، إذ خسر أمين بعض الأشجار ومحصول البقدونس والأعشاب التي كان يزرعها في الدفيئات.
وفي وقت لاحق؛ نشر الموقع الإخباري العسكري الدولي، “ميليتاري تايمز“، تقريراً يوثّق كلام مسؤول دفاعي أمريكي، قال إن الحادث نتج عن تصادم طائرتين دون طيار من طراز “إم كيو-9 ريبر”، تعود لقوات التحالف التي تحارب تنظيم الدولة “داعش”، قرب قريتي سلقين وكفر تخاريم، غرب إدلب.
والحقيقة أنه منذ سقوط الطائرات المسيرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 وحتى اليوم، ما زالت تربة هذه المنطقة سوداء وغير صالحة للزراعة، برغم محاولات أمين المتكررة لحراثة التربة.
قصة أمين، هي واحدة من بين أحدث القصص التي تكشف الضرر الذي ألحقه الأطراف الدوليون والمحليون في الحرب السورية بالأراضي والنظام الزراعي في البلاد، وذلك بأساليب لا تزال تتكشف إلى يومنا هذا.
يرصد هذا التحقيق أثر الحرب في سوريا على مدى العقد الماضي، على أرض في منطقة لا تزال تمثّل بؤرة صراع تمتد من ريف حلب إلى ريف إدلب الشرق.
إلى جانب التأثير الخطير للحرب في حياة المدنيين ويومياتهم، عمل هذا التحقيق على تتبع ورصد الأثر البيئي الذي خلّفه النزاع المسلح والأسلحة على الأراضي الزراعية والأشجار والتربة بشكل خاص.
روى لنا مزارعون محليون قصصاً كثيرة عن أراضيهم والخسائر اليومية التي يتكبدونها منذ بداية الحرب عام 2011، وركّزنا على أربعة مواقع تأثرت بالعمليات العسكرية، إما لأنها استُهدفت مباشرة بالأسلحة، أو لأنها تحولت إلى مقارّ للتدريب العسكري أو لأنها احترقت بسبب القصف والاشتباكات العسكرية.
المشكلات البيئية المتنوعة
تمحورت القضايا البيئية الرئيسية في سوريا قبل الحرب حول إزالة الغابات والرعي الجائر وتآكل التربة، فضلاً عن التصحر وتلوث المياه الناجم عن اختلاط مياه الصرف الصحي والنفايات الناتجة عن تكرير النفط.
ووفقاً لتقرير صادر عن “مؤسسة باكس للسلام“، وهي منظمة هولندية غير حكومية، مثّلت ندرة إمدادات مياه الشرب والجفاف طويل الأمد عراقيل إضافية أعاقت التنمية الاقتصادية في البلاد.
فمن هم اللاعبون الرئيسيون اليوم، وما التحديات البيئية الجديدة التي أضيفت إلى المشكلات السابقة؟
خلال الحرب التي دامت عشر سنوات في سوريا، استخدمت جميع الأطراف المتورطة في النزاع المسلح (روسيا و إيران والنظام السوري و تركيا والفصائل المتقاتلة على اختلافها) معدات عسكرية بمختلف أنواعها، الحديثة والقديمة، على الأرض وفي البحر وفي الجو، كما صودرت الأراضي بهدف فرض السيطرة العسكرية وقطعت أشجار كثيرة وألقيت الأسلحة التجريبية الفتاكة على مناطق مأهولة وزراعية.
علاوة على ذلك؛ تأثر النظام الاجتماعي والاقتصادي بشكل واضح، وأجبرت ظروف الحياة القاسية الناس على زراعة أراضيهم المتضررة، برغم احتراقها أو تلوثها بالقنابل المتفجرة أو غير المنفجرة، كما اضطروا إلى جمع المياه ورعي الماشية وجمع الحطب من دون أي حماية.
الموت بهجمات جوية وارد في أي لحظة!
جاء الدور الروسي في الصراع السوري لمساعدة حكومة النظام السوري، من خلال استخدام الهجمات الجوية والأسلحة التي لم تستعملها على السكان سابقاً.
بدأت القصة عام 2015؛ عندما استخدمت موسكو أسلحةً ومعدات عسكريةً جديدة في سوريا، بما في ذلك طائرات الهليكوبتر الهجومية “طائر الليل/ ميل مي-28“، ومقاتلات “الجيل الخامس سوخوي سو-57“، وأنظمة الدفاع الجوي “بانتسير-إس1″، والمركبات المدرعة “تيرمينيتر-2” المعروفة باسم “الوحش المدمر”، والمركبات البرية القتالية غير المأهولة “أوران-9″، والقنابل الذكية، ونظام قاذف اللهب الثقيل “توس-1″، وتتراوح هذه الأسلحة بين النوع المتوسط إلى الثقيل ولها قوة تدميرية كبيرة.
عام 2016، جهّزت روسيا أربع مقاتلات “سو-35” تليها مقاتلات “سو-55 وسو-27” لاختبارها للمرة الأولى؛ وقد صرح حينها سيرجي تشيميزوف، الرئيس التنفيذي لمجموعة روستيخ الدفاعية الروسية المملوكة للدولة، لموقع “ديفانس نيوز” في مقابلة مترجمة، بأن “الأنشطة العسكرية الحالية ضد تنظيم الدولة، التي تقوم بها روسيا في سوريا أظهرت قدراتنا وإمكانات هذه التكنولوجيا… إذ خلّف ذلك تأثيراً إيجابيّاً للغاية على مبيعاتنا”، وكانت روسيا قد صنفت جميع مناطق المعارضة بأنها مرتبطة بالإرهابيين وبتنظيم الدولة.
وتشيميزوف، لم يخجل من وصف العملية بأنها “إعلان مجاني” لسفن وطائرات ومعدات وصواريخ روسية الصنع.
كرّرت “سبوتنيك” في ذلك الوقت أن هذه الطائرات أثبتت قدراتها في سوريا، وأن نشاط روسيا العسكري مع المجموعة الصاروخية في سوريا كان عبارة عن دعاية مجانية لمعدات دفاعية روسية، وقالت روسيا إنها اختبرت 210 أسلحة مختلفة عام 2018، ووفقاً لوزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، تمكنّت القوات المسلحة الروسية من اكتساب خبرة كبيرة في سوريا.
تتهم المعارضة النظام السوري وحلفاءه بإلحاق أضرار بالتربة الزراعية في ريف إدلب وشمالي حماة؛ وقال نائب وزير الإدارة المحلية للخدمات والزراعة في الحكومة السورية الموقتة، نزيه قداح، لموقع “أنبايس ذا نيوز” من خلال مكالمة على “واتساب”: “نتيجة للحرب التي تخوضها روسيا وقوات النظام السوري؛ تضرّرت مناطق واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة”، وصرّح قداح لـ”تي آر تي العربية” في نيسان/ أبريل 2021، بأن “القطاع الزراعي قد تأثر بشكل كبير مثل القطاعات الاقتصادية الأخرى بسبب الحرب التي يخوضها نظام الأسد وحليفته روسيا في المنطقة”.
المناطق التي لا تخضع لسيطرة النظام السوري فقدت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة حسب قداح، إضافة إلى خسارة مساحات شاسعةً أي فرص للاستثمار الزراعي بسبب قربها من مناطق الصراع، وانتشار الألغام، وتهجير معظم سكانها، إلى جانب إحجام الكثير من الفلاحين عن زراعة أراضيهم، مشيراً أيضاً إلى تضرر التربة الزراعية بشكل مباشر، نتيجة القصف بمواد كيماوية سامة ومحظورة دوليّاً.
ولكن التقرير لم يشر إلى الأعمال العسكرية التي تقوم بها فصائل المعارضة العسكرية أو توزع قواتها أو المدافع الصاروخية ضمن هذه الأرض الزراعية.
من الزراعات “السقوية” إلى الزراعات “البعلية”
إضافة إلى جرف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والحرجية وإحراقها، أصبحت أراض كثيرة من التي تزرع بالسقي خاضعة لظروف الأمطار بسبب تدمير مشاريع الري أو قطع المياه، بالتزامن مع ارتفاع تكاليف استخراج المياه الجوفية بسبب ارتفاع أسعار المحروقات.
ماذا معنى أن تكون الأرض “بعلية”؟
تعتمد الزراعة البعلية بشكل كلي على مياه الأمطار لتوفير المياه، وهذا غالباً ما يجعلها أكثر عرضة للتأثّر بأنماط الطقس غير المنتظمة والجفاف والتبخر، من الزراعة السقوية، لا سيما في ظل تزايد الجفاف وعدم القدرة على التنبؤ بالطقس، فيصبح الأشخاص الذين يعتمدون على هطول الأمطار في زراعة محاصيلهم أكثر عرضةً للتأثّر بتغير المناخ.
من يعيش على المحاصيل البعلية؟
لفت قداح إلى الارتفاع الملحوظ في أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي وندرتها (المحروقات والمبيدات والأسمدة والأدوات الزراعية المختلفة)، ما يعني انخفاض إنتاجية المحاصيل المزروعة إلى جانب ضعف القدرة التسويقية وارتفاع تكاليف التخزين كعوامل إضافية تضر بالزراعة.
في دراسة أجريت عام 2017، ذكرت “منظمة الأغذية والزراعة” (الفاو) أن التكلفة الأولية لإعادة بناء قطاع الزراعة على مدى ثلاث سنوات قُدرت بمبلغ إجمالي يتراوح مابين 10.7 مليار إلى 17.1 مليار دولار، اعتماداً على التغيرات في الصراع وآفاق الحل السلمي، بشكل جزئي أو كامل.
أفاد تقرير وردنا من الحكومة السورية المؤقتة العاملة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية أن ما يقرب من مئة ألف هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة تضررت بسبب الهجمات العسكرية الروسية والنظام السوري.
اقتُلِعَت ودُمِّرَت
قطعت قوات المعارضة السورية المدعومة من أنقرة نحو 280 ألف شجرة زيتون في منطقة عفرين شمالي سوريا، وأحرقت واقتلعت أشجاراً أخرى، يزيد عمر بعضها عن 60 سنة، وما زال الرقم الرسمي للأشجار المتضررة غير واضح.
وقال الصحافي محمد بلو، الناشط الإعلامي المقيم في مدينة الحسكة، إن أسباب قطع الأشجار متعددة، ترتبط ببيعها خشباً أو حطباً داخل سوريا، أو لتصديرها إلى تركيا، كما قُطعت آلاف أشجار الزيتون على جانبي الطريق القديم الذي يربط بين حماة والحدود التركية، لتوسيعه واستخدامه طريقاً دولياً.
وكان الناس يكسبون عيشهم من أشجار الزيتون وزيته؛ فالزيتون يشكل 70 في المئة من دخل السكان في عفرين، بحسب “مركز توثيق الانتهاكات الكردي“، لكن بعد التهجير واستمرار قطع الأشجار، أصبحت هذه الثروة مهددة تماماً بالانقراض.
كما لفت “مركز توثيق الجماعات المسلحة العنيفة في سوريا“، إلى قطع آلاف أشجار الزيتون، إضافة إلى عمليات قطع الأشجار الجائرة التي تقوم بها فصائل المعارضة، بحسب وكالة “ستيب”.
يقول بلو إن نوعًا نادرًا من شجر البلوط أو ما يعرف بالبلوط الروماني، كان موجوداً في منطقة عفرين وقدّر عددها بالعشرات؛ لكن هذا النوع انقرض بسبب قطع الأشجار.
وأفادت وسائل إعلام بأن “مجموعة العمشات المسلحة” الموالية للجيش الوطني السوري (معارضة) هي المسؤولة عن قطع الأشجار، ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2020، قرر المجلس المحلي لمدينة عفرين في ريف حلب، حظر البيع والتقطيع وإهدار الشجر، لمصلحة أي جهة بقصد قطع الأخشاب أو المتاجرة بها، وتزامن ذلك مع بداية فصل الشتاء، الذي عادة ما يشهد زيادة في قطع الأخشاب لغرض التدفئة.
الإيجار والتخريب
يقول مصطفى فواز، إن الجيش التركي استأجر جزءاً من أرضه مزروعة بأشجار الفستق في بلدة مورك في ريف حماة، بوساطة “فيلق الشام” (أحد فصائل المعارضة المحلية يقاتل في صفوف الجيش الوطني السوري).
وقال فواز إن القوات التركية استأجرت نحو 28 دونماً فقط (الدونم 1000 متر مربع) و600 متر مربع من أرضه، لكنه فوجئ في العام التالي عندما رأى الجيش التركي يصنع تلالاً ترابية تتجاوز طول المساحة المستأجرة دون علمه وتجرف مساحة تزيد عن 40 دونماً وتقتلع عدداً كبيراً من أشجار الفستق الحلبي.
وأضاف: “كل شيء واضح وموثق بالصور، فالمنطقة الجنوبية من أرضي كانت مزروعة بأشجار صغيرة، قمت بتصويرها قبل استئجار الأرض واقتلعت 76 شجرة لتحديد النقطة بحسب الاتفاق، ومع ذلك، تم اقتلاع عدد كبير من الأشجار دون موافقتي”.
وقال مصطفى: “لقد وعدوني، وفقاً للعقد، بأنهم سيعوضونني عن أي ضرر يلحقونه بالأرض وأنهم سيعيدون كل شيء كما كان، لكن أرضي أصبحت صخرية”.
يبلغ ارتفاع التلال الترابية في أرض مصطفى 5 أو 6 أمتار، إضافة إلى جدران خرسانية مشيدة عالية تصعب إزالتها، وتم تجريف معظم الأراضي حتى أصبحت الصخور مرئية، ما يعني أنها تحتاج مبالغ كبيرة لإصلاحها.
ترك مصطفى قريته ولجأ إلى بلدة أخرى في إدلب، مورك، حيث بنى منزلاً صغيراً داخل مخيم للنازحين في المنطقة؛ ويعمل حارساً ليلياً في أحد المرافق في المنطقة. أما حزنه على أرضه فلا ينتهي، بانتظار العدالة، التي يأمل أن تتحقق ويستعيد أرضه بعدما سطا عليها النظام السوري بعد اتفاق أستانا.
وكانت تركيا أقامت 122 نقطة عسكرية، بحسب “مركز جسور للدراسات“؛ وفي حماة حيث تقع أرض مصطفى، توجد نقطة مراقبة واحدة، تم بناؤها عام 2018، لكنها الآن تحت سيطرة الجيش السوري.
خلال متابعتنا التحقيق، لاحظنا اختلافاً في شكل التخريب الذي مورس في الأراضي الزراعية التي كانت تتمركز فيها نقاط المراقبة التركية، وهذا يدل على عدم وجود أسلوب منهجي يعتمده الجيش، بل إن كل مجموعة عسكرية تنجز العمل بحسب فهمها لكيفية تنفيذ مهمتها.
ووقعت معظم العمليات العسكرية على جبهات القتال في الأراضي الزراعية أو حولها في محافظات إدلب والرقة وحماة وحلب. علاوة على ذلك؛ صادر أطراف النزاع الأراضي الزراعية في هذه المناطق.
الأرض المحروقة
ووثقت “هيومن رايتس ووتش” استخدام طائرات النظام السوري والطائرات الحربية قنابل حارقة خلال غارات متعددة خلال السنوات الماضية.
يحظر استخدام الأسلحة الحارقة، بما في ذلك النابالم والفوسفور الأبيض وأسلحة أخرى؛ ضد المدنيين بموجب بروتوكول الأمم المتحدة الثالث بشأن أسلحة تقليدية معينة، والذي وقعته روسيا، لكن النظام السوري غير موقع عليه.
وتغطي الاتفاقية الألغام الأرضية والقنابل المتفجرة والأجهزة الحارقة وأسلحة الليزر المسببة للعمى وإزالة المتفجرات من مخلفات الحرب.
ولكن كل من روسيا والنظام السوري أيضاً لم يوقعا على اتفاقية الذخائر العنقودية.
وإذ يحظر البروتوكول استخدام الأسلحة ضد المدنيين، إلا أنه لا يؤكد آثارها السامة على التربة الزراعية أو الخسائر البيئية والبشرية التي تنجم عن استخدامها.
يقول أيوغان داربيشاير، وهو خبير بيئي متخصص بالصراع والبيئة: “ليس التأثير الأولي للقنبلة هو الذي يسبب حرارة التربة فقط، بل هناك أيضاً أسلحة كالتي تنفجر في الهواء أو الألغام أو الكثير من الذخائر الأخرى يمكن أن تلوث التربة سواء بيولوجياً أو كيميائياً”، مشيراً إلى الضرر اللاحق بالناس جراء “استخدام هذه الأسلحة وتلوث الموارد المائية. إضافة إلى أن الانفجار الناتج عن الأسلحة أو الهجمات الصاروخية يتسبب في تلوث الهواء والأرض، وتلوث المزروعات تالياً”.
في هذا السياق، أخبرنا سيف* كيف احترقت أرضه بالكامل، وأوضح أنه “مع بداية موسم حصاد القمح في نهاية شهر أيار/ مايو 2021، تحديدًا في سهل الغاب (القرى التابعة لبلدة الزيارة)؛ بدأت قوات النظام السوري بقصف الأراضي الزراعية بالمدفعية والصواريخ”، ما أدى إلى احتراق عشرات الهكتارات، حتى إنه تمكن رؤية الحرائق من الصور المتوفرة على موقع “google earth“.
مصطفى عمر، مزارع آخر احترقت أرضه الواقعة في منطقة الهبيط جنوب إدلب في نهاية عام 2019، قال لموقع “أنبايس ذا نيوز”: “تعرضت أرضي وبعض الأراضي الأخرى في المنطقة للقصف بصواريخ وقذائف مختلفة”، وهو حدث رصدته الكاميرا.
واحترقت أشجار الزيتون في أرض مصطفى والأراضي المجاورة بالكامل، ما يعني أنه لم يعد قادراً على زراعتها، بسبب تأثر التربة في المناطق المتضررة.
واضطر مصطفى عمر إلى ترك أرضه ومنزله عندما سيطرت قوات النظام السوري على المنطقة واتجه نحو قرية شمال إدلب.
متفجرات ومخلفات ضارة
وبرغم أن فريق الخوذ البيضاء يقدم دعماً فوريّاً في مناطق سيطرة المعارضة، ويحاول مساعدة السكان على إخماد الحرائق أو تقديم المساعدة لهم، إلا أن السكان المحليين لا يتلقون الدعم الكامل في تطهير أراضيهم من مخلفات الحرب وملوثاتها.
ولا معلومات كافية عن حجم تسمم التربة، أو كيفية إحيائها؛ ما يمنع الأهالي من زراعة أراضيهم كليّاً أو جزئيّاً، فالتربة ملوثة ويحتمل أن تحتوي أيضاً على مخلفات متفجرة.
ووصف سامي المحمد، منسق “برنامج الخوذ البيضاء للتعامل مع المواد الخطرة والذخائر غير المنفجرة”، عمله في مسح وتحديد مواقع الأسلحة غير المنفجرة، فيقول: “قامت فرق المسح منذ بداية إنشائها عام 2019 حتى هذه اللحظة بزيارة أكثر من 600 قرية، وتم تحديد أكثر من 600 منطقة ملوثة بالقنابل غير المنفجرة”.
وبسبب وجود قنابل عنقودية قاتلة، يعتبر تحديد مواقع الألغام وإبطالها أمراً صعباً للغاية؛ يقول سامي: “لم تتلق فرقنا تدريبات على التعامل مع الألغام وحقولها لأنها تتطلب جهوداً كبيرة، تحديداً على مستوى الحكومات”.
ويمكن أن يكون لهذه الألغام غير المنفجرة وغيرها من الأسلحة غير المكتشفة تأثير كبير على التلوث، فيقول داربيشاير: “يمكن أن تلوث بقايا الأسلحة البيئة. وينطبق هذا على الذخائر التي لا تنفجر أيضاً مثل الألغام الأرضية، وقد تتسرب الملوثات الموجودة إلى التربة وتلوثها، وربما تتراكم بيولوجياً داخل النباتات، وتتسرب إلى المحاصيل أو أي شيء آخر، ثم ينتهي بها المطاف إلى الإنسان”.
كيف تلوث الحرب التربة لقرون؟
حاولنا في هذا التحقيق مقارنة نتائج تسمم التربة في مناطق شهدت نزاعات سابقاً مع ما يحصل في سوريا.
وبينت النتائج آثار خطيرة على التربة السورية، وقد شددت الأمم المتحدة على أهمية الأثر البيئي للنزاع في سوريا؛ فقد أكدت أنه “لا يمكن إنكار أن الأولوية القصوى أثناء النزاعات المسلحة والحروب هي إنقاذ المدنيين ومعالجة جروحهم ونقلهم إلى مناطق آمنة”.
لكن كما يبدو أن الأمور خطيرة للغاية على الجانب الإنساني، فهي تزداد خطورة عند تجاهل تأثير المعارك العسكرية في البيئة، بخاصة التربة والمياه وهما من المصادر الرئيسية التي تعتمد عليها معيشة السوريين الذين يقبعون أصلًا تحت خط الفقر”.
وقد لوحظت الآثار المدمرة للحرب على الأرض في نزاعات سابقة أيضًا، فقد أشارت دراسة نشرها برنامج الأمم المتحدة للتنمية البيئية عام 2013، في مقاربة لما حدث في حرب الخليج، إلى أن الأخيرة التي استمرت من عام 1990 إلى عام 1991 تسببت بأضرار بيئية خطيرة، وتفاقم الوضع سوءاً بعد غزو العراق عام 2003.
ويُعزى ذلك إلى تشييد التحصينات العسكرية، إضافة إلى زرع وإزالة الألغام وتحركات الآليات العسكرية والعسكريين؛ إذ تعرضت النظم البيئية في الكويت والعراق والمناطق المحمية والصحراء إلى ضرر شديد، ما أدى إلى تسارع تآكل التربة وزيادة حركة الرمال، إضافة إلى الغبار والعواصف الرملية.
كما أن أوروبا لم تكن بمنأى عن الدمار الناجم عن الصراع؛ فقد كان للحرب العالمية الأولى في القرن الماضي تأثيرٌ كبيرٌ بسبب إزالة الغابات والتلوث الكيميائي الناتج عن الأسلحة، لدرجة أنه لا تزال هناك مناطق تعتبر غير صالحة للسكن بعد مرور أكثر من قرن من الزمان، ويشار إلى تلك المناطق في فرنسا باسم “المنطقة الحمراء”. (انظر مربع المعلومات).
تظهر الدراسات أنه بعد سنوات، أن كميات الزرنيخ وآثار غاز الخردل المخزنة في التربة مميتة بدرجة كافية لدرجة أنها تستمر في التسبب في مشكلات صحية للسكان المحليين في المنطقة الحمراء في فرنسا حتى يومنا هذا.
“غير مأهولة”
وقد أدى مستوى التلوث بالمعادن الثقيلة والغازات السامة والأسلحة غير المنفجرة في هذه المنطقة إلى جعل الأراضي الزراعية غير صالحة للسكن في “المنطقة الحمراء” الفرنسية. (دراسة: تأثير الحرب العالمية الأولى على الغابات في غابات وتربة الآفات والتربة في أوروبا).
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية “فاو“؛ يمكن أن تمتد هذه الآثار إلى الأجيال الأخرى، ولا تقتصر على الجيل الذي عانى من الصراع ، حيث “تستخدم الحرب الحديثة أسلحة دمار غير قابلة للتحلل، ومواد كيميائية يمكن أن تبقى في التربة المتضررة لقرون بعد نهاية الصراع”.
من سينظف هذه المواد؟
المهندس الزراعي فادي عبيد، الذي تعرضت مزرعته في إدلب لهجوم من القوات الروسية وقوات النظام السوري، قال لنا: “تمتص التربة العناصر الثقيلة المكوِّنة للمواد المتفجرة، ثم تنتقل بعد ذلك للإنسان، وإذا تجاوزت نسبة المعادن الثقيلة الحد المسموح به فإنها قد تؤدي إلى الإصابة بالسرطان والتشوهات، كما أنها تنتقل إلى الحيوانات والأغنام والماشية التي يتغذى الإنسان على لبنها أو لحومها، ناهيك بخطر قتل المزارعين في حال انفجارها”.
وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر؛ فقد تسببت عشر سنوات من الأزمة في سوريا إلى أن ما يقدر بنحو 11.5 مليون شخص يعيشون في خطر الإصابة بالألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب، وبخاصة بعدما تحولت مساحات شاسعة من البلاد إلى حقول ألغام، وقد يستغرق الأمر عقوداً قبل تطهير سوريا بالكامل من التلوث بالأسلحة.
وبغض النظر عن عملنا هذا، تحتاج هذه المواضيع إلى متخصصين يعملون على تحليل التربة من خلال المختبرات، وربما لا وجود لأي منظمة داخل سوريا تعمل في هذا الشأن، كونه يتطلب جهوداً كبيرة وقدرات عالية.
محمد سامي المحمد من الخوذ البيضاء.
ترتبط جميع عناصر الماء والهواء والتربة ببعضها بعضاً، وتأثرت جميعها بالحرب السورية التي امتدت لأكثر من عشر سنوات، وعلى رغم وجود أربع سلطات تدير هيئات مدنية وحكومات ذات آليات تنفيذية على الأرض تحكم مناطق مختلفة من سوريا، إلا أن أياً منها لم ينجح في وضع أي سياسة حوكمة مناسبة متعلقة بالبيئة، ولم يقدَّم أي دعم فعلي يمكن أن يساعد المزارعين السوريين على التعامل مع تسمم التربة الزراعية، أو دعمهم بسبب عدم قدرتهم على استخدام أراضيهم بالشكل الأمثل.
جميع الأطراف المتصارعة في سوريا تتلقى دعما عسكرياً من قبل الدول المتقدمة في تصنيع الأسلحة، ولكن بغض النظر عن مدى اختلاف الأهداف التي تتنازع من أجلها هذه الأطراف ، فإن الأمم المتحدة وقوانين الحرب تلزم جميع الأطراف باحترام حقوق الإنسان. والبيئة. هذا يعني أن التدمير العشوائي الذي يتسبب فيه الجنود في تحقيق أهدافهم العسكرية هو مسؤولية هذه الدول ، حتى لو انتقلوا إلى صراعات أخرى.
الخبير البيئي أيوغان داربيشاير يقول أن البلدان التي شهدت النزاعات ستكون الأكثر تضرراً بالتغير المناخي نتيجة ارتفاع نسبة غاز الكربون وأكثرها عرضة للخطر. أما أن يكون هناك أحد يتحمل مسؤولية تنظيف التربة، فهو سؤال مطروح و لكن لا يوجد ما يبشر بالخير بتنفيذه.
هذه النتائج تبدو مرعبة مع تصريحات برنامج الأغذية العالمية :”مع دخول النزاع في سوريا عامه الحادي عشر،هناك نحو 12.4 مليون سوري في جميع أنحاء البلاد من مستويات غير مسبوقة من الفقر وانعدام الأمن الغذائي”.
أنتج هذا التحقيق بالتعاون مع موقع unbiasthenews وبإشراف وفاء البدري، والرسوم التوضيحية من قبل أنطوني بورالي، المراسلين محمود أبو راس وعبد الغني العريان، تدقيق الحقائق محمد بسيكي، حررته للغة العربية باسكال صوما.
* تم تغيير بعض الأسماء.