منصة رقمية متخصصة بقضايا تغير المناخ في الشرق الأوسط

أدخنة “الدورة” تخنق سماء بغداد “تحقيق”

سعال شديد تصاحبه شهقات حادة، وأيادي مرتجفة تحاول سريعًا سحب بخاخ التنفس لسحب جرعة أكسجين، تنقذ الرئتين من الاختناق. 

مشهد ليس بغريب في حي المهدية الثانية، الواقع قرب محطة كهرباء الدورة، ولكن الغريب هنا أن حاملة البخاخ طفلة لا يتجاوز عمرها سبع سنوات. 

هنا، لا تفرق أمراض الجهاز التنفسي بين كبير وصغير؛ فالهواء الملوث الناتج عن انبعاثات مصفاة النفط ومحطة الكهرباء المجاورة للأحياء السكنية، تسرب إلى كل البيوت، بما فيها بيت الطفلة ريم محمد التي تعاني من صعوبة في التنفس، يعيقها عن ممارسة حياتها الطبيعية. 

تقول والدة ريم: “أخاف على صحة ابنتي، فهي تحتاج إلى إسعافات أولية عندما تأتيها نوبة الربو، وعندما لا تستجيب لعلاج البخاخ، نأخذها إلى مستشفى اليرموك لتلقي العلاج وأخذ الأوكسجين”.

 

تاريخ من التلوث في بغداد

تأسست مصفاة الدورة في العام 1953. وتقع على بعد نحو 15 كيلومترًا جنوبي غرب بغداد. وتدير المصفاة شركة مصافي الوسط المملوكة إلى وزارة النفط العراقية.

 وعلى بعد 10 كيلومترات من مصفاة الدورة تقع محطة كهرباء الدورة؛ وهي محطة حرارية تم إنشاؤها في العام 1976، وتديرها شبكة الكهرباء الوطنية التابعة إلى وزارة الكهرباء العراقية.

وتعمل المصفاة على تكرير النفط الخام إلى منتجات نفطية مختلفة؛ مثل: البنزين والديزل والكيروسين والمازوت، فيما تعمل محطة الكهرباء على توليد الكهرباء من خلال حرق الغاز الطبيعي أو الوقود السائل. 

ينبعث من هذين المشروعين كمية كبيرة من الملوثات التي تؤثر على جودة الهواء في المناطق المحيطة بهما؛ فوفق تقرير الواقع البيئي الذي أصدرته وزارة البيئة العراقية في العام 2017، فإن منطقة الجادرية المحيطة بالمشروعين تعاني من ارتفاع ثاني أوكسيد الكبريت، وأحادي أوكسيد الكربون.

وتشير صور الأقمار الاصطناعية إلى تزايد التجمعات السكنية في المنطقة المحيطة بالمصفاة، في السنوات العشر الأخيرة. 

ودعت لجنة الصحة والبيئة في البرلمان في 2014 إلى نقل المشروعين، نتيجة لارتفاع الملوثات في مناطق مأهولة بالسكان. 

ورد المتحدث باسم وزارة النفط عاصم جهاد  لصحيفة “المدى” على المطالبات بنقل المشروعين بـ”أن الوزارة التزمت بالمعايير البيئية، وأدخلت وحدات تنقية إضافية للتخفيف من التلوث الذي ينتج من عمل المصفاة”.

 

ارتفاع حجم التلوث 

على الرغم من تأكيدات المتحدث باسم وزارة النفط، بين المسح الجغرافي الذي أجرته معدة التحقيق أن المصفاة ومحطة الكهرباء حرقا غازات كثيفة خلال السنوات العشر الأخيرة. 

تبين خرائط موقع  skythruth  حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط بمعدل 0.394 مليار متر مكعب ما بين 2012 و2022.

ويحرق العراق أكثر من 16 مليار متر مكعب (مليار متر مكعب) من الغاز المصاحب للنفط كل عام، ما يجعله ثاني أكثر دولة في العالم من حيث حرق الغاز.

وتظهر الصور التي تم جمعها من موقع التواصل الاجتماعي، وتم مطابقتها بالموقع الجغرافي للمصفاة والمحطة، استمرار النيران التي تدل على حرق الغازات، وتنامي تصاعد الأدخنة من المصفاة.

“العمل أفسد صحتي”

يعمل عمار الياسري -40 عامًا- في محطة كهرباء الدورة سائقًا للشاحنات. بعد سنوات من العمل، انتابه سعال شديد، دفعه لزيارة الطبيب الذي شخص حالته بالتهاب مزمن للشعب الهوائية، وطلب منه الخضوع لعلاج طويل الأمد. 

يقول الياسري: “أشعر أن هذا العمل قد أفسد صحتي. أرى نارًا وشرارات تخرج من المولدات، وأشعر -في الوقت نفسه- بألم في صدري وظهري، وأعاني من سعال مزمن. أخبرني الطبيب بضرورة الابتعاد عن التلوث الذي أتعرض له كل يوم، وهو السبب فيما أعانيه من أعراض صحية. أعلم أن مرضي مزمن، ولا أتوقع الشفاء”.

جاء في دراسة علمية عن تأثير الملوثات البيئية في المنطقة المحيطة بمصفى الدورة، أن سكان المنطقة يعانون من تغيرات في مؤشرات ومعايير كريات الدم الحمراء والبيضاء؛ لأسباب قد ترجع إلى تلوث البيئة في المنطقة. 

وجمعت الدراسة التي نشرتها دائرة البيئة والمياه في وزارة العلوم والتكنولوجيا المدمجة، عينات دم من بعض سكان المجمع السكني التابع للمصفاة. 

وبين فحص الدم انخفاض عدد كريات الدم الحمراء بنسبة 52 في المئة، وارتفاع العد التفريقي لكريات الدم البيضاء بنسبة 44 في المئة للخلايا الواحدة والحامضية، وبنسبة 48 في المئة لخلايا العقدة لكلا الجنسين المتعرضين. 

الدكتور عمر ياسين، استشاري أمراض صدرية في مستشفى اليرموك التعليمي، يقول: “نشهد زيادة كبيرة في عدد المرضى الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي، خاصة في فصل الشتاء. أغلب هؤلاء المرضى يسكنون في المناطق الملوثة بالقرب من المصفاة ومحطة كهرباء الدورة. نحن نعاني من نقص في الموارد والأدوية والمعدات لمعالجة هؤلاء المرضى، أغلب المرضى بأعمار صغيرة أطفال وشباب وهذا مؤشر خطر. نحتاج إلى حل جذري لهذه المشكلة، وليس فقط إلى وعود مستمرة مع تزايد أعداد المرضى”.

أحكام النقل على الورق

في العام 2021 اعلنت المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق، عن إحالة ملف انتهاكات صحية في مصفى الدورة إلى الإدعاء العام، وتضمن الملف العديد من المخالفات التي تنعكس بشكل سلبي على البيئة.

وطالب عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية السابق، عبد الحسين الموسوي، في تصريحات صحفية، بتنفيذ القرارات القضائية السابقة الداعية لنقل مصفى الدورة من مكانه الحالي؛ لما يلحقه من أذى كبير على المنظومة البيئية والصحية للبلد. وأضاف الموسوي: “ما توفره المصفاة من القدرة الإنتاجية للمنتجات النفطية والتوليدية الكهربائية ليست كبيرة إلى الحد الذي يجعلنا لا نضع موضوع نقله على طاولة الحوار”، لافتًا إلى أن: “الضوابط الفنية والبيئية الدولية والإقليمية تمنع إنشاء المصافي داخل التجمعات السكانية”.

وتمنع المادة 61 من قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009، انبعاث الأدخنة أو الغازات أو الأبخرة أو الدقائق الناجمة عن عمليات إنتاجية أو حرق وقود إلى الهواء إلا بعد إجراء المعالجات اللازمة بما يضمن مطابقتها للتشريعات البيئية الوطنية.

كما نصت المادة السادسة من القانون على عدم استخدام النفط الأسود والمنتجات البترولية الثقيلة الأخرى والبترول الخام بالمناطق السكنية.

وحددت المادة السابعة ألا يقل بعد الموقع عن 5 آلاف متر عن حدود أقرب منطقة سكنية. 

وهو ما يخالف ما رصدناه بأن المحطة تجاور المناطق السكنية. 

ورد المتحدث باسم وزارة النفط على ذلك بأن إنشاء المصفاة والمحطة يسبق تنامي التجمعات السكنية. ولكنه لم يعلق سابقًا على القرارات البرلمانية بشأن نقل المصفاة والمحطة.

أرقام صادمة

ورغم ما فرضته العراق من قوانين للتصدي للتلوث، تشير مؤشرات قياس التلوث إلى ارتفاع معدلات تلوث الهواء في العاصمة بغداد.

وفق التقرير الذي نشره مؤشر تلوث الهواء IQAir، فإن “العراق جاء في المرتبة الثانية كأكثر دول العالم تلوثًا حيث تدهورت جودة الهواء في العراق في العام 2022، لتسجل جزئيات PM2.5 العالقة به 80.1 ميكرو غرامًا لكل متر مكعب، بعدما كان 49.7 ميكرو غرامًا في عام 2021”.

وأتت بغداد على رأس قائمة المدن الأكثر تلوثًا من حيث الهواء في العراق، وصنف المؤشر هواءها بأنه “غير صحي”.

وجودة الهواء مؤشر يعبر عما يختلط بالهواء من غازات أو جزيئيات ملوثة؛ مثل: ثاني أكسيد الكبريت (SO2)، أول أكسيد الكربون (CO)، ثاني أكسيد النيتروجين (NO2)، الأوزون (O3)، الجزئيات (PM)، والرصاص (Pb).

تقول الدكتورة زينب حسن، باحثة في مركز بحوث البيئة في الجامعة التكنولوجية في بغداد: “لقد أجرينا دراسات عديدة عن جودة الهواء في بغداد، وخاصة في المناطق المحيطة بالمصفاة ومحطة كهرباء الدورة. لقد وجدنا أن هذه المناطق تتعرض لمستويات عالية من الملوثات، مثل: ثاني أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد النيتروجين، والرصاص”.

وتضيف أن هذه الملوثات تنتشر في الهواء بسبب الرياح والحرارة والضغط الجوي، وتصل إلى المناطق السكنية المجاورة لمصفى ومحطة كهرباء الدورة، مثل حي المهدية وحي الآثوريين وحي المعلمين ومنطقة الدورة. هذه المناطق أصبحت مأهولة بالسكان بشكل كامل كما تم استحداث أحياء سكنية جديدة، فضلًا عن وجود أحياء أخرى قيد البناء والتشييد.

تسبب هذه الملوثات الأمراض التنفسية المختلفة، بحسب الدكتور غيث حميد اختصاصي الأمراض الباطنية والتنفسية في مركز بلو الطبي التخصصي الذي يقول إن: “أمراض الجهاز التنفسي هي مجموعة من الأمراض التي تؤثر على الأنف والحلق والقصبات والرئتين. بعض أشكال هذه الأمراض هي: التهاب الشعب الهوائية، والالتهاب الرئوي، والربو (أزمة صدرية)، والسل (درن)، والسرطان الرئوي.

ويضيف أن أمراض الجهاز التنفسي تسبب أعراضًا مزعجة للمصابين بها، مثل: السعال، وصعوبة في التنفس، والاحتقان في الصدر، وصفير في التنفس، ونزيف الأنف، والصداع، والحمى. وتؤدي مضاعفات هذه الأمراض إلى الوفاة في الحالات المتقدمة.

وبحسب تقرير يوثق الوضع الصحي في العراق للفترة ما بين تشرين الأول/أكتوبر 2018 ونيسان/أبريل 2019، فإن نسبة المراجعين بالأمراض التنفسية من المراجعين الكلي في المستشفيات والمراكز يبلغ في عموم العراق 51 في المئة في العام 2019.

كما أن الأمراض التنفسية هي السبب الرئيس لمراجعة ردهات الطوارئ في عموم العراق. وهي ثاني سبب للرقود في المستشفى حسب إحصاءات وزارة الصحة العراقية.

تعاني سارة جبر، 35 عامًا، التي تسكن في منطقة الجمعية الواقعة بالقرب من مصفى الدورة مع زوجها وابنها الوحيد، من سرطان رئوي في مراحل أولية، وتخضع لجلسات العلاج الإشعاعي.

تقول جبر: “أعيش في هذا الحي منذ زواجي قبل 9 سنوات، وأفضله على غيره من الأحياء، لكن الهواء هنا سئ جدًا. نتعرض دائمًا للغبار والضباب بشكل مستمر، وأشم رائحة كريهة يقولون إنها قادمة من المصفى المجاور للحي ومحطة كهرباء الدورة. تم تشخيص إصابتي بسرطان رئوي قبل عام، ولا أستطيع الخروج من المنزل إلا عند الضرورة. نستعين بجهاز تنقية الهواء داخل البيت، وآمل أن أتماثل بالشفاء، وأن تلتفت الحكومة لمعاناتنا”.

يقول قتيبة كاظم -مدير المرصد البيئي في العراق- إنهم يتابعون بقلق تدهور الهواء بسبب المصادر الملوثة منذ سنوات، خاصة المصفى ومحطة كهرباء الدورة، مطالبًا الجهات المسؤولة باتخاذ إجراءات فورية للحد من هذا التلوث، ونقترح بعض الحلول الممكنة، مثل: تطبيق معايير صارمة للتحكم في انبعاثات هذين المشروعين، واستخدام تقنيات نظيفة وفعالة لتشغيلها، والتوقف عن تجريف الأراضي في المناطق المحيطة بهما. وأن يتم حماية صحة وحياة سكان بغداد من خطر التلوث.

فيما يرد عاصم جهاد المتحدث عن وزارة النفط على ما كشفناه بأن الوزارة  تحرص على التزامها بحماية البيئة والصحة العامة. وأضاف: “نحن ندرك أن هناك مخاوف بشأن تلوث الهواء في بغداد، ونحن نعمل على اتخاذ إجراءات لمعالجة هذه المخاوف وفق ما هو متوفر من إمكانات”.

ولم يعلق على ارتفاع نسبة الأمراض التنفسية في المناطق المحيطة بمصفى الدورة.

وبين نفي وزارة النفط التسبب في تلويث البيئة في منطقة الدورة، وانتقادات وزارة البيئة للتلوث الصادر عن مصفاة الدورة ومحطتها الكهربائية. تظل الغازات تخالط هواء المنطقة، وتستمر حالة سارة في التردي، فيما تبقى يدي ريم قابضة على بخاخ التنفس.

تم انجاز هذا التقرير ضمن اطار مشروع اصواتنا المنفذ من قبل منظمة انترنيوز. 

ينشر في أوزون ضمن شراكة مع انترنيوز

 

تابعنا على نبض

قد يعجبك ايضا
اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.