منذ أيام قليلة تساقطت الثلوج بكثافة على مدينة الغردقة وبعض مدن محافظة البحر الأحمر، المعروفة بطقسها المعتدل شتاء، لتكرر مشهدًا مماثلًا، وغير معتاد أيضًا، وقع في محافظة الإسكندرية قبل أسابيع قليلة.
البعض يسأل على استحياء، هل تغيرات المناخ هي المسؤولة عن ثلوج الغردقة ومناخها المتطرف، ومن قبلها شرم الشيخ والإسكندرية؟
وفق الدراسات العلمية وآراء الخبراء: نعم.
رغم ذلك، قد تبدو الإجابة غير منطقية على الإطلاق، كيف يمكن الربط بين الاحتباس الحراري وتغير المناخ من جانب، وتساقط الثلوج وانخفاض درجة الحرارة من جانب أخر؟
أو بالأحرى، كيف يحذر العلماء من الاحتباس الحراري باعتباره المسؤول عن ارتفاع درجة حرارة الأرض، بينما يؤكدون في نفس الوقت أن الطقس شديد البرودة في بعض الأماكن، التي كانت ذات طقس دافئ من قبل، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتغيرات المناخ؟
الجواب العلمي، وفق منظمة صندوق الدفاع البيئي، إحدى المنظمات البيئية الرائدة في العالم، يؤكد أن هناك صلة قوية بين ارتفاع درجة حرارة الكوكب وأنماط الطقس المتغيرة، ذلك لأن الكوكب الأكثر دفئًا يبخر المزيد من الماء في الغلاف الجوي، هذه الرطوبة المضافة تعني المزيد من هطول الأمطار على شكل تساقط ثلوج كثيف أو هطول أمطار غزيرة، ما يعني أن تساقط الثلوج خلال العواصف الشتوية هو نتيجة متوقعة لتغير المناخ.
الغلاف الجوي للأرض عبارة عن عباءة من الغازات النشطة، ويَسخن الهواء ويَبرد باستمرار، بينما تُرسِل الشمس طاقتها خلال النهار، وتعكس الأسطح الدافئة هذه الطاقة مرةً أخرى إلى الفضاء في أثناء الليل، وينجم عن التسخين غير المتكافئ نشوء رياح محلية تهب في كل اتجاه، وتتبخر المياه باستمرار من اليابسة والبحار، لتتكثف في الهواء وتتساقط في شكل أمطار أو ثلوج.
يمكن أن يتسبب ذلك أيضًا في حدوث فيضانات قياسية خلال الأشهر الأكثر دفئًا، ولكن خلال فصل الشتاء، عندما يبتعد الجزء الخاص بنا من العالم عن الشمس، تنخفض درجات الحرارة، وبدلاً من هطول الأمطار الغزيرة، يمكن أن نتعرض لعواصف شتوية هائلة، وذلك ما يسميه العلماء الظواهر المناخية المتطرفة.
د. طارق تمراز أستاذ البيئة البحرية والتغيرات المناخية بجامعة قناة السويس، ومدير مشروع إدارة التيارات المناخية الممول أوروبيًا، يؤكد في تصريحات خاصة لـ اوزون أن ظاهرة ظهور الثلوج والتغير الملحوظ في مناخ الغردقة مرتبط بالتغيرات المناخية لا شك.
ويقول: “المقصود بتغيرات المناخ هو تغير في المناخ السائد لفترة زمنية، سواء كان هذا التغير بارتفاع درجة الحرارة أكثر من المعتاد أو انخفاضها أيضًا أكثر من المعتاد”.
ويضيف: ” هذه الظاهرة تسمى Extreme Climatic Episodes، بالعربية تعني الفترات المناخية المتطرفة أو شديدة التغير، وهي تعبر بالضبط عما حدث في الغردقة، التي اعتدنا طوال السنوات السابقة على طقسها الدافئ، ومعنى تساقط الثلوج على المدينة يؤكد أن هناك تغير في مناخها، وأننا بصدد فترة مناخية متطرفة”.
تغير مناخ الغردقة سوف يترتب عليه تكرار تساقط الثلوج مستقبلًا في المدينة، ولن تكون المرة السابقة هي الوحيدة أو مجرد استثناء كما يدعي البعض، وفق تمراز.
ويضيف: “في 2010 على سبيل المثال، شهدت الإسكندرية ارتفاعًا كبيرًا في مستوى سطح البحر، والبعض وقتها فسر ذلك بأنها مجرد “نوة” شديدة لن تتكرر فيما بعد، لكن ما حدث أنها تكررت، وتكرار هذه الظواهر المناخية المتطرفة يعني أن مصر تشهد بالفعل تغيرات مناخية”.
يؤكد تمراز أن الثلوج التي ظهرت في الغردقة وقبلها في شرم الشيخ سوف تتكرر مرة أخرى في فبراير المقبل، ومن المتوقع أيضًا أن نشهد سيولًا شديدة وغير معتادة في نهايات فبراير أو أوائل مارس في تلك المناطق، ويشير إلى أن تلك الظواهر ترتبط دائمًا بتغيرات المناخ، وتتسم بشدتها وقسوتها وخروجها عن المألوف والمعتاد، فترفع درجات الحرارة في الصيف وتسبب جفاف، أو تخفض درجة الجرارة في الشتاء فتسبب ثلوج، بينما تتحول الأمطار لسيول.
يؤكد تمراز أن الأمر برمته مرتبط بالاحتباس الحراري والانبعاثات العالمية، فكندا شهدت ارتفاعًا في درجات الحرارة أدى لوفيات، وألمانيا شهدت سيولًا كثيفة غير معتادة، بجانب حرائق الغابات في عدة دول بالعالم، كل تلك الظواهر نتيجة للتغيرات المناخية لا شك.
اقرأ أيضًا.. نعم.. التغيرات المناخية هي السبب في ثلوج الإسكندرية “3 خبراء يؤكدون”
ثلوج الغردقة سوف تتكرر
د. وفاء ربيع الباحثة المناخية المقيمة في أوروبا تعلق في تصريحات خاصة لـ اوزون على تلك المسألة محل الجدل قائلة: “لا شك أن الاحتباس الحراري الناتج عن حرق الوقود الأحفوري والأنشطة البشرية الأخرى تسبب في رفع درجة حرارة الكوكب بأكثر من 1 درجة مئوية ( 1.8 فهرنهايت) منذ الثورة الصناعية، وكان العقد من 2010 إلى 2019 هو الأكثر حرارة على الإطلاق، لكن رغم ذلك، لا يؤدي تغير المناخ إلى ارتفاع درجات الحرارة فحسب، بل يؤدي إلى طقس متطرف بشكل عام، وأكثر قسوة”
وتضيف: ” الاحتباس الحراري يعني هواءً أسخن بالطبع، لكن الهواء الأسخن يمكن أن يحمل رطوبة أكثر، وهذا يترجم إلى هطول كثيف للأمطار أو الثلوج، ويؤدي إلى نشوء العواصف التي تلعب الرطوبة دورا مهما في تشكلها، مما قد يعني زيادة في العواصف الشديدة على حساب العواصف الخفيفة”.
وتفسر الأمر بوضوح أكثر قائلة: “يتشكل الثلج عندما يلتقي الهواء الدافئ الرطب بهواء شديد البرودة، ففي بعض المناطق بأوروبا الغربية في الشتاء، نادرًا ما يكون الهواء باردًا لدرجة تكفي لتساقط الثلوج، لكن رغم ذلك تسقط، والسبب في ذلك أن منطقة “جيزيلا” ذات الهواء عالي الضغط تجلب رياح القطب الشمالي الباردة إلى وسط ألمانيا، هذه الرياح الباردة تصطدم بهواء البحر الدافئ الذي حملته منطقتين منخفضتي الضغط تسميان “تريستان ورينهارد”، ونتيجة هذا الاصطدام تتحول الرطوبة إلى ثلج بسبب أن الجو بارد بدرجة كافية”.
وتكمل: “ولأن الهواء الأكثر دفئا يحمل المزيد من الرطوبة، فإن ارتفاع درجات الحرارة يعني أن الكتل الهوائية ستنقل المزيد من المياه، ويمكن أن تصبح هذه الرطوبة ثلجا أينما بردت بما فيه الكفاية، عادة يحدث ذلك في الأماكن المرتفعة”.
ما طرحته ربيع يتوافق مع نتائج دراسة أمريكية أجراها العلماء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أكدت أن ارتفاع الغازات الدفيئة يؤدي إلى فصول شتاء أكثر برودة في الولايات المتحدة وأوروبا، وذلك بسبب أن الاحترار غير الطبيعي في القطبين ينتج عنه طاقة زائدة تؤدي إلى اضطراب في الدوامة القطبية وانقسامها إلى دوامات أصغر تنتقل خارج نطاق القطب الشمالي المعتاد.
جودا كوهين، مدير التنبؤات الموسمية في الغلاف الجوي والبحوث البيئية، وهي شركة أمريكية لتقييم مخاطر الطقس، يقول إن درجات الحرارة الأكثر دفئًا بسبب تغير المناخ تسبب اضطرابات في الدوامة القطبية، ما يؤدي إلى زيادة تواتر طقس الشتاء القاسي في مدينة نيويورك على سبيل المثال.
الدوامة القطبية هي منخفض جوي عالي المستوى محمل بالهواء البارد يقع بالقرب من القطبين الشمالي والجنوبي، وتعتبر كل دوامة قطبية منخفضًا جويًا واسع النطاق بقطر أقل من 1000 كيلومتر، يدور في اتجاه عكس اتجاه عقارب الساعة عند القطب الشمالي، ويسمى بالإعصار في كلتا الحالتين، وبعبارة أخرى، تدور كل دوامة قطبية في اتجاه الشرق حول كل قطب.
في ظل الظروف العادية، يحافظ التدفق الدائري للهواء على تركيز الطقس البارد في منطقة واحدة. لكن وفقًا لـ كوهين، ترتفع درجة حرارة القطب الشمالي أسرع بمرتين من بقية الكوكب، وعندما تتعطل الدوامة القطبية بفعل الهواء الأكثر دفئًا، يتسرب الهواء البارد إلى مناطق أخرى من الكرة الأرضية، وتظهر تأثيرات مفاجئة ومتأخرة، يتضمن الكثير منها انخفاض درجات الحرارة والطقس الشتوي القاسي في الولايات المتحدة وشمال وغرب أوروبا، ما يؤدي إلى حدوث انفجارات وتغيرات كبيرة في القطب الشمالي.
ورغم أن تلك الظروف التي تشير إليها الدراسة تتعلق بالمناطق الواقعة في خطوط العرض الوسطى الشمالية، وهو نطاق يشمل 36 دولة في أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا وآسيا الوسطى، ولا تنطبق بأي حال من الأحوال على ما حدث في مناخ الغردقة، لكنها صورة أخرى لظاهرة التطرف المناخي الذي يتسبب أحيانًا في تساقط الثلوج، تساعدنا على فهم الظاهرة بشكل أعمق.
في النهاية، يرى “تمراز” أن العبارة الشهيرة التي تصف مناخ الغردقة ومصر بشكل عام بأنه حار جاف صيفًا ودافئ ممطر شتاءً لم تعد دقيقة لوصف المناخ السائد حاليًا، خاصة بعد ما شهدت مصر موجات شديدة الحرارة، وأحيانًا سقوط أمطار، في فصل الصيف بشكل غير معتاد، كما شهدت البلاد سيولًا شديدة في أول فصل الربيع في سيناء وهو أيضًا لم نشهده من قبل.
لكن هل يعني كل هذا أن العادات المناخية السابقة لمدينة الغردقة وقبلها الإسكندرية وشرم الشيخ قد ولت إلى الأبد؟
يقول تمراز: ليس بعد، لم تنتقل تلك المدن بشكل دائم إلى منطقة أو فترة مناخية جديدة، لكنها في الطريق.