في صرخة تحذير مدوية، تدق الأمم المتحدة ناقوس الخطر حيال مستقبل مدينة عدن المائي، محذرةً من أن العاصمة المؤقتة لليمن تقف على أعتاب كارثة عطش غير مسبوقة. تقرير حديث صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يرسم صورة قاتمة، مؤكدًا أن طبقات المياه الجوفية في عدن قد تجف تمامًا خلال العام الجاري، مما ينذر بعواقب بيئية وإنسانية وخيمة.
هذا الواقع المرير يجعل من تحلية مياه البحر باستخدام الطاقة المتجددة ضرورة ملحة، وليس مجرد حل مستقبلي أو ترفًا تقنيًا. فالمدينة التي تتآكل بنيتها التحتية المائية وتفقد أكثر من 40% من إمداداتها، لم يعد أمامها سوى هذا الخيار لتجنب الأسوأ وإنقاذ حياة سكانها، في ظل تفاقم اهتراء الشبكات، وغياب الصيانة الدورية، وضعف كفاءة التوزيع، ناهيك عن أزمة كهرباء خانقة، تزيد من صعوبة تشغيل المضخات وضمان استمرار وصول المياه إلى الأحياء.
ومع تضاعف الضغوط على الموارد المائية وشح البدائل، برز خيار تحلية المياه كضرورة قصوى لا تقبل التأجيل. غير أن تنفيذ هذه المشاريع يواجه عراقيل كبيرة، ليست فنية فقط، بل تتعلق بالتمويل والإدارة وضعف البيئة الاستثمارية وغياب الحوكمة الفعالة. الأمر الذي يثير تساؤلات حقيقية حول مدى قدرة الحكومة اليمنية، في ظل الوضع السياسي والاقتصادي الحالي، على تبني هذا المسار المعقد، وهل يمكن للقطاع الخاص أن يدخل بقوة لإنقاذ عدن من شبح الجفاف الذي يلوح في الأفق القريب؟
التقرير الأممي أشار بشكل صريح إلى أن اليمن بأكمله يواجه واحدة من أشد أزمات المياه في العالم، لافتًا إلى أن البرنامج الإنمائي يتصدر حاليًا الجهود الدولية لدعم حلول طويلة الأجل، بهدف تأمين الوصول إلى مياه نظيفة وآمنة ومستدامة، وذلك نتيجة التدهور الحاد في مصادر المياه الجوفية، والضغط الشديد الذي تتعرض له شبكات التوزيع في المدن الكبرى.
وأوضح التقرير أن أزمة المياه في اليمن ليست ظرفية أو طارئة، بل هي أزمة مركبة وملحّة، تتطلب تحركات عاجلة. ومع اعتماد غالبية السكان على المياه الجوفية كمصدر رئيسي للشرب، فإن استنزاف هذه الموارد بوتيرة تفوق قدرتها على التجدد، يشير إلى أننا أمام معضلة مائية تتجه نحو نقطة اللاعودة.
حلول مقترحة
تناول التقرير بالنقد الاستراتيجية الوطنية الشاملة للمياه، التي كانت الحكومة قد أطلقتها عام 2005، معتبرًا أنها لم تعد مرتبطة بالواقع المتغير والمتدهور على الأرض. وشدد على أن الانتقال من استجابات إنسانية آنية ومؤقتة إلى تدخلات تنموية شاملة ومستمرة – خاصة في ما يخص التكيف مع آثار التغير المناخي – قد فتح الباب أمام إمكانيات جديدة لليمن، يمكن أن يكون من بينها تحلية المياه كمشروع مستدام وواعد.
واعتبر التقرير أن إزالة الأملاح من المياه باستخدام الطاقة المتجددة تمثل حلًا واقعيًا ومتصاعد الجدوى، يمكن أن يعيد ضبط المعادلة المائية في البلاد، إذا ما توفرت الإرادة والدعم المؤسسي الكافي لذلك.
كما أشار البرنامج الإنمائي إلى أنه قد بدأ فعليًا في تمهيد الأرضية اللازمة لإنجاح مشاريع التحلية بالطاقة النظيفة، عبر سلسلة من الخطوات الاستراتيجية، من بينها إعداد خطة شاملة للمياه، الصرف الصحي، خدمات النظافة وإدارة النفايات الصلبة في محافظة عدن، وهي الخطة التي تُعد ركيزة مركزية لتحسين مستوى خدمات المياه في المدينة بشكل عام.
وفي موازاة هذه المبادرات، أنجز البرنامج عددًا من الدراسات الاستطلاعية والتقنية، إلى جانب دراسات جدوى مبدئية، هدفت إلى تقييم إمكانية الاستفادة من تحلية مياه البحر والمياه ذات الملوحة المنخفضة داخل المدينة، مع الأخذ بعين الاعتبار الجوانب الفنية والبيئية والمالية، وجرى في هذا السياق أيضًا تحليل واقع وآفاق مشاركة القطاع الخاص في مشاريع التحلية، من خلال تحديد فرص الاستثمار، واستيعاب التحديات التي قد تعرقل مساهمته في التنفيذ.
وأكد التقرير أن مجمل هذه الجهود تصب في اتجاه بناء رؤية متكاملة لتحلية المياه تتناغم مع الأهداف التنموية الشاملة لليمن، وتراعي في الوقت ذاته الحفاظ على البيئة، وتطوير المؤسسات المحلية، وتوسيع أدوار الفاعلين الاقتصاديين في إنقاذ هذا القطاع الحيوي.
وأشار إلى أن اليمن، الذي ما زال يعاني منذ قرابة عقد من آثار الحرب والانقسام، لا يزال يواجه تحديات هيكلية عميقة، مثل تراجع فعالية أنظمة الفوترة، وضعف الإدارة، وتضرر البنية التحتية بفعل الصراع والإهمال طويل الأمد.
نوّه التقرير إلى أن الموقع الجغرافي الاستثنائي لليمن يمنحه فرصة نادرة لإنشاء محطات تحلية على سواحله الممتدة من جنوب البحر الأحمر، مرورًا بخليج عدن، حتى بحر العرب، مشيرًا إلى أن هذه السواحل الطويلة تمثل فرصة ثمينة لم تُستثمر حتى الآن بالشكل المطلوب. كما لفت إلى أن التوسع في الطاقة الشمسية، مثل محطة الطاقة الشمسية التي تعمل في عدن بقدرة 120 ميجاواط، يمثل عاملًا مساعدًا يمكن أن يقلل من تكاليف تشغيل مشاريع التحلية وجعلها أكثر استدامة وصديقة للبيئة.
وأكد البرنامج أن التوجه للاستفادة من الاهتمام الدولي المتزايد بقطاع المياه، وإمكانية بيع المياه المحلاة للقطاع الصناعي، مع التوسع في تقنيات إعادة تدوير المخلفات الناتجة عن عملية التحلية، تفتح الباب أمام بيئة استثمارية واعدة في هذا القطاع، وتدعم في الوقت ذاته توجهات التنمية المستدامة.
وفي سياق يزيد من تعقيد المشهد، ويضع علامات استفهام حول قدرة المنظمات الأممية على الاستمرار بنفس الزخم، كشفت مصادر مطلعة عن أن برنامج الأغذية العالمي (WFP) بدأ فعليًا عملية تقليص كبيرة في عملياته داخل اليمن، شملت تسريح أكثر من 230 موظفًا، من بينهم 210 من الكوادر اليمنية، إلى جانب نحو 20 موظفًا دوليًا.
ووفقًا للمصادر ذاتها، فقد تم إبلاغ عدد من الموظفين رسميًا بانتهاء عقودهم، فيما يُتوقع إبلاغ الآخرين خلال الأيام المقبلة. وتشير المعلومات أيضًا إلى أن البرنامج يعتزم إغلاق عدد من مكاتبه في بعض المحافظات، بما فيها مكتب محافظة حجة شمال غرب البلاد، ومكتب إب في وسط البلاد. وتُعد هذه الخطوة بمثابة تحدٍ إضافي، قد يُضعف من قدرة البرامج الأممية على مواكبة الأزمات المتفاقمة، وعلى رأسها أزمة المياه.
دور البرنامج الإنمائي
شدد التقرير على أن البرنامج الإنمائي سيواصل، إلى جانب دعم الدراسات والبنية التحتية، تقديم دعم حيوي ومباشر للحكومة اليمنية، من خلال المشاركة في تحديث الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه، ووضع برنامج استثمار شامل، يكون بمثابة خريطة طريق لتوجيه الاستثمارات والسياسات المائية المستقبلية، وضمان حوكمتها بشفافية وكفاءة، حيث يجري العمل حاليًا على بلورة رؤية وطنية لتخصيص المياه بشكل يضمن العدالة في التوزيع والكفاءة في الاستخدام بين مختلف القطاعات.
كما أشار إلى أن البرنامج كان له دور مؤثر في بناء الحوارات الإقليمية المتعلقة بمستقبل الأمن المائي، حيث شارك مؤخرًا في المؤتمر السادس لتحلية المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي استضافته العاصمة الإماراتية أبوظبي.
وخلال هذا المؤتمر، مثلت السيدة بوران محمد، وهي أخصائية في إدارة موارد المياه في البرنامج، مكتب اليمن، وقدّمت إحاطة موسعة استعرضت من خلالها التحديات المائية التي تواجه البلاد، وقدّمت تصورًا متكاملًا للتعامل مع هذه التحديات من خلال مشاريع تحلية مدعومة بالطاقة المتجددة، إلى جانب دعم وبناء القدرات المؤسسية.
كما تم إشراك مجموعة من أبرز الخبراء العالميين في جلسات النقاش، لتبادل التجارب والمعارف حول أحدث ما وصلت إليه تقنيات تحلية المياه، خصوصًا في الدول والمناطق التي تشهد هشاشة في بنيتها المؤسسية وتتعرض لمخاطر مناخية متصاعدة، مثل اليمن.
واختتم التقرير بالإشارة إلى أن مشاركة اليمن في هذا المحفل الإقليمي الهام أسهمت في إيصال صوت البلاد إلى العالم، وسلطت الضوء على الحاجة الملحّة إلى إيجاد حلول دائمة ومستدامة لأزمة المياه، عبر دعم جهود التخطيط الاستراتيجي، وتنسيق الجهود الدولية، وتعزيز التكامل بين مشاريع الطاقة والمياه، لبناء مستقبل مائي أكثر مرونة وقدرة على الصمود.