درنة/ ليبيا
“تغيير كامل في جغرافية المكان، ولو أحضرنا شركات عالمية وطلبنا منها هذا التغيير لما استطاعت فعله!”.
هذا ما قاله مدير منظمة الحياة لحماية الأحياء البرية والبحرية السيد صالح بورزيقة، أثناء زيارته لمحمية وادي الناقة الواقعة غربي مدينة درنة بعد إعصار دانيال الذي ضرب المدينة في العاشر والحادي عشر من شهر سبتمبر الماضي.
تبلغ مساحة المحمية حوالي 10 × 15 كيلو متر مربع، وتتميز بأنها منطقة “لازالت خام”، فهي لم تشهد عمليات جرف للغابات، أو البناء العشوائي، وتعد قاموس للنباتات العطرية والطبية في منطقة الجبل الأخضر بصفة خاصة، وليبيا بصفة عامة.
تعد محمية وادي الناقة، المحمية الوحيدة في ليبيا، المعتمدة بقرار رقم 277 الصادر عن وزارة البيئة عام 2021 ميلادية، كمحمية للحياة البرية ذات أهمية عالمية كمناطق محمية للإنسان والمحيط الحيوي (ماب).
دور السكان المحليين
خلال الأعوام التي تلت الاعتماد نشطت منظمة الحياة لحماية الأحياء البرية والبحرية، من أجل جعل المحمية مكانا للحفاظ على التنوع البيولوجي والحيوي في منطقة الجبل الأخضر، فأوطنت العديد من الأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض كالطيور الجارحة، والسلاحف البرية، وغيرها من الحيوانات، وكان للسكان المحليين دور كبير في جعل المحمية موطنا آمنا لهذه الحيوانات.
لكن هذه الخطوات النشطة من أجل المحافظة على الحياة البرية والحيوانية والبحرية في المحمية لم تضع في حسبانها التغييرات المناخية السريعة، والتي بدأت أثارها تظهر في مناطق كثيرة من العالم، حيث ضربت المحمية عاصفة قوية كانت هي الأعنف في تاريخ المنطقة التي لم تعرف مثل هذه الأنواع من العواصف من قبل، وتسبب هطول الأمطار بكميات كبيرة في ليلة واحدة إلى انهيار السدين اللذين كانا يحصنان مدينة درنة ومحيطها من السيول والفيضانات، وأدى هذا الانهيار إلى حدوث كارثة بيئية خلفت خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وتغيرت جغرافية المكان بأكمله.
دمار كبير للبيئة الطبيعية والبنية التحتية
في تقييم أولي للوضع البيئي بعد العاصفة بخمسة أيام قال السيد صالح بورزيقة مدير منظمة الحياة:
يُعتبر الوضع البيئي لمدينة درنة كارثياً، بعد تعرض المدينة للفيضانات القوية بسبب عاصفة دانيال التي تسببت في دمار كبير للبيئة الطبيعية والبنية التحتية، ومن خلال متابعة وزارة البيئة مع منظمة الحياة لحماية الأحياء البرية والبحرية لمناطق المحميات الطبيعية والوديان بمنطقة الجبل الأخضر ذات الأهمية البيئية، والسياحية، والعلمية من مواقع أثرية، ومناطق للتنوع الحيوي، والشواطئ رأينا أن أبرز الأضرار البيئية التي لحقت بمنطقة الجبل الأخضر: خسائر بشرية كارثية، تقطع سبل العيش عند المزارعين ومربيي الأغنام والمواشي من ناحية: نفوق الأغنام، تدمير في خلايا النحل، انهيار الطرق الترابية المؤدية للمزارع، تدمير الموارد الطبيعة التي يقتات منها الناس في محمية وادي الناقة.
وأضاف السيد صالح بأن الفيضانات، والسيول جرفت الغابات والعديد من الأشجار كالبلوط، والخروب، والزيتون، ونباتات طبية عطرية ورعوية، مما أدى إلى تدهور النظام البيئي للمنطقة وانجراف مساحات كبيرة من الأراضي والوديان، وفي حصيلة أولية تبين ما يلي:
فقدان أكثر من 200 شجرة زيتون يزيد عمرها عن 1000 سنة، وعدد 250 من شجر الخروب، وعدد 100 شجرة بلوط، ونفوق أعداد كبيرة من الأحياء البرية والطيور بسبب السيول إضافة لنقوق الكائنات البرية في المرتفعات في محمية وادي الناقة، والتي لم يصلها السيل حيث أن هناك عدد كبير من الكائنات الحية النباتية والحيوانية مدرجة ضمن القائمة الحمراء للكائنات المهددة بالانقراض، تعرضت لما يسمى (ظاهرة الموت في الطبيعة).
تغيير مسارات شلالات وظهور عيون ماء
وأشار صالح إلى أن هناك مسارات لبعض الشلالات القديمة قد تغيرت، وتم ردم بعض عيون المياه، وظهور عيون مياه جديدة في عين قزوان حيث لوحظ فيها: ظهور مادة لزجه، والمياه المتدفقة منها ذات رائحة كريهة، ولم تنجو من الكارثة حتى البيئة البحرية حيث تلوثت الشواطئ نتيجة انجراف المباني والطرق إلى داخل البحر.
وأكد السيد صالح أنه بعد كل الذي مر على المدينة والمحمية يتوقع أنه سيحدث تغيير كبير في النظم الايكولوجية للمنطقة بالكامل.
وفي سياق متصل قال عضو منظمة ادامة لصون الطبيعة عمر أبوبكر المنصوري حول رحلتهم لمحمية وادي الناقة: حسب التقييم والمشاهدة فأن الاضرار كارثية على مستوى الغطاء النباتي والحيواني فمعظم الأشجار، والنباتات العطرية وغيرها في الوادي قد تم جرفها بالكامل، والأمر يزداد سوء بعد عزل السكان المحليين عما حولهم فقد جرفت الفيضانات الطرق الرئيسية المحيطة بهم، وتعرضهم لأضرار اقتصادية كبيرة بعد فقدهم للكثير من الأغنام وخلايا النحل والمزارع الخاصة بهم. وأكد السيد عمر على أن صعوبة الوصول للمحمية ولفقدان المنطقة للطرق الرئيسية بها، لم يتمكنوا من الحصول على الإمكانيات اللازمة للتقييم بشكل دقيق، لذلك تمت عملية التقييم بالمشاهدة والتصوير فقط كتقييم مبدئي.
وأشار السيد عمر بأن المنظمات الثلاثة وهن ـــ منظمة إدامة لصون الطبيعة، ومنظمة الحياة لحماية الأحياء البرية والبحرية، والجمعية الليبية لحماية الحياة البرية ـــ تعاونت فيما بينها بعد الكارثة وتكمنا من الوصول إلى المنطقة بسرعة، وكنا أول الواصلين وقمنا بالتوثيق والتسجيل بصورة مبدئية للأضرار الواقعة بالمحمية، وتم الاتفاق على تحوير هذه الجهود لخطة عمل للمساهمة في إعادة الحياة للوادي، وتقليل الأضرار والخسائر للسكان المحليين، وتم اصدار بيان مشترك بين المنظمات الثلاثة لكل الجهات المحلية والدولية وتم بالفعل تلقي بعض الاتصالات بالخصوص.
وأوضح السيد عمر بأن: محمية وادي الناقة من أهم المحميات الطبيعية في المنطقة الشرقية وهي تتمتع بتنوع بيولوجي قيم وهي تحافظ بصورة كبيرة على تنوع الحياة البرية والنباتية بالمنطقة بصفة عامة، ولا يمكن أن نتوقع عودة الحياة للمحمية بعد وقت قصير فالأضرار كبيرة ولكن قد يسرع عملية التعافي تعاضد الجهات الحكومية وكل المؤسسات المعنية المحلية والدولية.
مزيج بين الكارثة الطبيعية والإهمال البشري
الباحث البيئي واستاذ علم النبات بجامعة بنغازي الدكتور يعقوب البرعصي يرى أن: ما حدث في مدينة درنة ومحيطها إنما هو مزيج بين الكارثة الطبيعية والإهمال البشري، مع الأخذ في عين الاعتبار أن الأمر برمته يتعلق بالتغير المناخي الذي حذر العلماء منه في فترات ماضية، ومن توابعه الخطيرة على البشرية، والذي صنفه الأميــن العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، بأنه مراحل تبدأ من مرحلة الفوضى المناخية (فوضى المناخ)، ثم نصل إلى الانفجار المناخي، وحذر بشدة من تبعاته الخطيرة المتلاحقة والمتضخمة والمتزايدة في القوة ، التي ستهدد حياة البشرية على الكوكب .
وأوضح الدكتور يعقوب أن: المشكلة الأساسية هي أن التغير المناخي أختصر الزمن فيما يخص المخاطر، بمعنى أنه إذا كانت هناك ظاهرة مناخية مؤثرة فإنها تحدث بفاصل مئات السنين، أما الآن أصبحت تحدث بفاصل زمني قدره عشرات السنين.
وقال الدكتور يعقوب: ولنضرب مثلا ما حدث في مدينة درنة كان مقدر له أن يحدث بفترة زمنية مقدرة ما بين 340 -346 سنة (من ناحية حدوث العاصفة المدارية والإعصار)، ولكن فجأة تم اختصار تلك السنوات وحلت الكارثة بالمدينة.
مضيفا إلى أن: معدلات الهطول المطري كان ضعيفا جدا فما كانت تتحصل عليه المنطقة في موسم مطير على مدار سنة كاملة وعلى فترات متباعدة، ولكن تجمع كل ذلك في أقل من 24 ساعة، بهطول كميات كبيرة من الأمطار تراوحت ما بين 400 -600 ملم، إن هذا الأمر قد يحدث الأمر مرة أخرى بفاصل زمني قدره عشرات السنين، وليس مئـات السنين “بمعنى تكرار العاصفة”، وارد خلال فترة زمنية قصيرة كحدث طبيعي مع استثناء خلل السد.
تأثرت النظم الايكولوجية في المنطقة
ويوجه الدكتور يعقوب البرعصي بضرورة جعل منطقة الجبل الأخضر محمية طبيعية بإدارة فنية خاصة، تديرها كمنطقة تستوجب الحماية من المخاطر التي تحدق بها من ناحية الحرائق سواء كانت طبيعية أو غير طبيعية، أو فيضانات، وإزالة الغطاء النباتي والرعي الجائر والتوسع العمراني “البناء العشوائي، عشوائية شق الطرق”، وغيرها من الضغوطات على البيئة الطبيعية.
ونوه إلى أهمية إقامة السدود بأنواعها، ولكن بعد دراسة صحيحة لموقعها وضرورتها، و حفر الصهاريج وغيرها مما تطلبه إجراءات نوع المحمية التي يتم تحديدها بعد دراسة الوضع بدقة، واعتبار منطقة درنة ضمن منطقة الجبل الأخضر وتغيير مسارات الأودية عند الضرورة ، زيادة التشجير والترقيع لما له من أهمية للبيئة الطبيعية ولما له من تأثير في تخفيف أثر الاحتباس الحراري، و فائدة لصحة الإنسان ، ولما له من تأثير في حصار و عزل الكربون وتخزينه لأنه من المحتمل وبسبب قوة الحدث قد تكون تأثرت النظم الايكولوجية في المنطقة خصوصا مع انجراف كميات ضخمة جدا غير مسبوقة من التربة المفيدة من كل المنطقة الى البحر.
جيومرفولوجية الجبل الأخضر
فيما علق عضو هيئة التدريس بكلية العلوم البيئية جامعة المرج والباحث في المجال البيئي الأستاذ سعد رجب حول محمية وادي الناقة قائلا: السيول والفيضانات غيرت من جيومرفولوجية الجبل الأخضر، وما تم ملاحظته بعد حدوث العاصفة المطرية التي اجتاحته، وكميات الأمطار الهائلة التي تهاطلت على هذه البقعة بمعدلات عالية جدا وغير مسبوقة في ليبيا عامة، والجبل الأخضر خاصة، ـــ طبقاً لسجلات محطات الأرصاد الجوية التي سجلت كميات أمطار يفوق معدلها المعدل السنوي، خلال يوم واحد فقط ـــ وحجم الجريان السطحي الهائل الذي تدفق عبر مجاري الأودية المنحدرة شمالا باتجاه البحر، وجنوبا باتجاه البلط والتي جرفت معها كل ما صادفها في الطريق، كل ذلك أدى إلى تغييرات في معالم كثير من الأودية”.
وأضاف: “بل واختفى البعض الآخر نتيجة الطمي والطين الذي حملته السيول بكميات هائلة مما جعل معالم عدة أودية لاسيما أودية جنوب الجبل الأخضر تختفي، وقد لاحظنا ذلك خلال رحلتنا في الأيام السابقة لجنوب الجبل الأخضر حيث اختفى مجرى وادي الثعبان، ومجرى وادي الحمامة، كما تغطى مجرى وادي سمالوس بكميات كبيرة من الطمي والطين مما شكل تربة بلغ سمكها في بعض المواضع قرابة الواحد متر”.
تابع: “ناهيك عن تغير مساحة البلط مثلما حدث في فيضان منطقة المخيلي، والصحيح إن هذه البحيرات الشاسعة من المياه قد تجمعت في بلطة الرملة الواقعة جنوب منطقة المخيلي، بالإضافة إلى امتلاء بلطات الزلق وبورقيص والمقرنات وغيرها من البلط بكميات كبيرة من المياه”.
قال: “كما غيرت السيول معالم معظم الأودية الشمالية للجبل الأخضر كأودية الكوف، والناقة، واللولب والملكة والمهبول ناهيك عن وادي درنة، واختفاء ونضوب بعض العيون المائية كعين الدبوسية، وانبثاق عيون مائية في ساحل طلميثة، وما لفت الانتباه أيضا ظهور مجاري أودية جديدة بمعدلات نحت عالية، وفي الواقع هي ليست أودية جديدة، ولكن هي مجاري أودية تم ردمها منذ زمن طويل نتيجة البناء، وشق الطرق في العديد من الأماكن والمواضع، ونحن نعرف أن الاودية تعود لتنحت في مجراها الطبيعي ولو بعد عشرات أو مئات السنين”.