أين هو التكيف الاقتصادي المتوافق مع النظم البيئية في العالم العربي؟
على مدى العقود الماضية تربعت الولايات المتحدة على هرم الاقتصاد العالمي مسيطرة وحلفاؤها الغربيون على معظم مؤشرات الإنتاج العالمي وارتفعت ثروات العالم الى نحو 463 ترليون دولار مطلع عام 2022.
لم يكن هذا النمو دون نتائج سلبية على مصير الكوكب، إذ سبب ازدياد عدد السكان وارتفاع مؤشرات النمو بين 6.5% و2.4% سنويا منذ مطلع هذا القرن الى أحمالً بيئية متطرفة وازدياد عدد الكوارث الطبيعية.
بشكل متوافق مع ارتفاع مؤشرات النمو العالمي، سجلت البيانات المناخية ارتفاعا مطرداً في درجات الحرارة؛ تاريخيا، يعتبر حرق الوقود الاحفوري الركيزة الأساسية لهذا النمو.
ينذر هذا السياق من تحايث نمو الاقتصاد العالمي مع زيادة الانبعاثات الناتجة عن الوقود الاحفوري وارتفاع درجة حرارة الارض، بتحولات كبيرة وغير مسبوقة لا يبدو أن العالم قادر على تحملها، اذ يمكن ان يتسبب بحسب دراسات علمية رصينة إلى ارتفاع شدة وحدة الكوارث واتساع نطاقها.
في العالم العربي بدأنا نلمس فعلا هذه الظواهر؛ الجفاف في العراق، التلوث في البحرين، والحرائق واسعة النطاق في المغرب والجزائر وسوريا ولبنان، وغيرها من الظواهر.
وعلى الرغم من التقدم الهام في بناء الإمكانيات الاممية والوطنية لمواجهة التغير المناخي والتي وصلت استثماراتها إلى رقم قياسي بلغ حوالي 337 مليار دولار، لكن الثغرة بين ما هو مطلوب من تطبيق الحد الأدنى من برامج التكيف (Adaption) والتخفيف (Mitigation) من جهة، والاستثمارات في الطاقات المتجددة وغيرها من استراتيجيات التمكين البيئي مازالت دون التوقعات وتشير الإحصاءات أنه فقط 5% من برامج التمكين تذهب لبرامج التكيف في حين يذهب الباقي إلى برامج التكيف، وهذه ثغرة بحد ذاتها.
رغم ذلك، تقود مجمل هذه الاستثمارات الى ظهور اقتصاد جديد يتبنى مفاهيم واستراتيجيات جديدة للتعامل مع البيئة والنظم البيئية، وطرق مبتكرة لحل المخاطر الناتجة عن تغير المناخ.
في الواقع وتحديدا بعد مؤتمري كيوتو عام 1997 وباريس للمناخ عام 2015 ثمة تحول جذري في رؤية صناع القرار الى القضايا البيئية، من التسويف الى قوننة الالتزام بالعمل على حماية الارض من التغيرات البيئية الكارثية المحتملة.
إن تحقيق النمو الاقتصادي بمعزل عن النظام البيئي الذي نعيش فيه، هو أحد الأوهام.
إن التعايش والتكيف مع النظام البيئي أمر حتمي، حيث يجب أن تُمثل العوامل غير البشرية بالوكالة السياسية والقانونية، تماما مثل تلك الموجودة بالفعل لدى الجماعات البشرية والأفراد والشخصيات الاعتبارية القانونية.
سيتطلب ذلك بناء آليات سياسية وبيئية ولوجستية تربط القضايا البيئية بالمؤسسات الدولية والوطنية وحتى السكان المحليون بعضهم البعض.
تحت ضغط هذه التحديات، وتحديداً فيما يتعلق بتحقيق التوازن الدقيق بين نمو الاقتصاد والحفاظ على البيئة، لم يكن العالم العربي بحاجة إلى جهود أكاديمية وسياسية بقدر ما يحتاج إليها الآن، مثل تطوير الزراعة الذكية، الأمن المائي، إدارة النفايات، التقييم العادل للبيئة، والسلام المستدام.
وهذا يقتضي بالضرورة مأسسة العمل البيئي، والاخذ بمصالح السكان المحليون، وإعادة صياغة بنية سوق العمل وعدالة توزيع نصيب الفرد.
وكانت قد اشارت إحصائيات إلى أن متوسط مستوى نصيب الفرد من رأس المال البشري في الدول الغنية بالموارد غير المتجددة -كما في معظم دول العالم العربي- هو أقل مقارنة بالدول غير المتجددة (Cust and Mandon 2021).
وتشكل ثروات رأس المال الطبيعي غير المتجددة في العالم العربي حصة كبيرة من إجمالي الثروات، لكن للمفارقة، تشير بيانات البنك الدولي أن 12 دولة عربية من بين الدول الغنية برأس المال الطبيعي غير المتجدد، ثلاثة فقط منها سجلت ارتفاع معدل رأس المال البشري فوق 96.9 وحدة (البنك الدولي 2021).
تشير الخلاصات السابقة إلى الحاجة الملحة لإعادة صياغة اتجاهات النمو في العالم العربي وتحويل الأصول الطبيعية غير المتجددة إلى أصول إنتاجية مستدامة متوافقة ومتكيفة مع النظم البيئية وخلق فرص عمل خضراء متوافقة معها.
في الواقع، حاجج عدد من الاقتصاديين في مايسمى: “لعنة الموارد”، إلى الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها لثروة الموارد الطبيعية غير المتجددة أن تعرقل التنمية المستدامة، وبالتالي تقويض تراكم رأس المال البشري (De la Brière et al. 2017).
وهناك عدد لا يحصى من الأمثلة المحبطة في العالم العربي عن هذا التفويض وكيف تختفي الثروات.
يعتبر تحويل الأصول الطبيعية غير المتجددة وبنية الوظائف الناشئة عنها أحد أهم مؤشرات التكيف الاقتصادي والاجتماعي المتوافق مع إدارة النظم البيئية.
في الواقع، بدأت الشركات تواجه ضغوطًا لتسريع تحولها الأخضر، وأوضح تقرير مستقبل الوظائف لعام 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي كيف أنه من المحتمل أن يكون هناك انعكاس في اتجاهات سوق العمل بالإضافة إلى الدور المحوري للتكنولوجيا في اعادة تشكيل الطلب على الوظائف والمهارات.
وفقاً لبيانات البنك الدولي، فإن التوظيف في الأدوار الخضراء تجاوز باستمرار معدل التوظيف الإجمالي عالمياً لمدة أربع سنوات متتالية بين 2019-2022، مما يشير إلى تحولات مستقبلية عميقة في البنية التحتية للاقتصادات من حيث التعامل مع مفهوم التوظيف.
على المستوى العربي تتعاون الحكومات الوطنية مع منظمات إقليمية ودولية عديدة مثل: (United Nations Framework Convention on Climate Change)، (Global Commission on Adaptation)، (Global Environment Facility) وغيرها.
وتعمل الحكومات على تحديد الاتجاهات العامة للاستدامة، وخلق فرص العمل، وتبحث الشركات بجدية في كيفية دفع هذا التحول الأخضر بشكل أسرع، وهو ما ينعكس في نمو الوظائف الخضراء.
لكن في العالم العربي، مازال هذا الطريق في بدايته، ويتعين على الحكومات العربية بذل جهود أكبر لتعزيز هذا التحول في سوق العمل، وتطوير البنية التحتية المناسبة له.