كشفت دراسة جديدة بقيادة جامعة ستانفورد عنصرًا خفيًا بإمكانه تغيير فهمنا لكيفية مساهمة المحيطات في التخفيف من آثار تغير المناخ. تكشف الدراسة، التي نُشرت في العاشر من أكتوبر الماضي في مجلة “ساينس”، عن “مظلات” مخاطية غير مسبوقة تُنتجها كائنات بحرية مجهرية، تُبطئ بشكلٍ كبيرٍ من غرقها، مما يعيق عملية أساسية لإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
يشير هذا الاكتشاف المُفاجئ إلى أن التقديرات السابقة لقدرات المحيط على عزل الكربون ربما تكون مُبالغًا فيها، ولكنه في الوقت نفسه يمهد الطريق لتحسين نماذج المناخ وإرشاد صانعي السياسات في جهودهم للحد من تغير المناخ.
قال مانو براكاش، المؤلف الرئيسي للدراسة، والأستاذ المساعد في الهندسة الحيوية والمحيطات بكلية ستانفورد للهندسة: “لم نكن نبحث بالطريقة الصحيحة. ما وجدناه يؤكد أهمية الملاحظة العلمية الأساسية، والحاجة إلى دراسة العمليات الطبيعية في بيئاتها الحقيقية. إنَّه أمرٌ بالغ الأهمية لقدرتنا على التخفيف من تغير المناخ”.
المضخة البيولوجية
تُشكل الثلوج البحرية – وهي خليطٌ من العوالق النباتية الميتة والبكتيريا وبقايا الكائنات الحية والجسيمات العضوية الأخرى – عاملًا أساسيًا في امتصاص ما يُقارب ثلث ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية من الغلاف الجوي، ونقله إلى قاع المحيط حيث يُحتجز لآلاف السنين. وعلى الرغم من أن العلماء قد عرفوا هذه الظاهرة – المعروفة بالمضخة البيولوجية – منذ فترة، إلا أنَّ الآلية الدقيقة التي تتحرك بها هذه الجسيمات الدقيقة إلى أعماق المحيط (الذي يبلغ متوسط عمقه 4 كيلومترات) ظلت لغزًا حتى وقتٍ قريب.
نجح الباحثون في حل هذا اللغز باستخدام اختراعٍ غير عادي، وهو مجهرٌ دوارٌ طُوّر في مختبر براكاش، يعمل على قلب المشكلة رأسًا على عقب. يتحرك هذا الجهاز مع حركة الكائنات الحية داخله، مُحاكيًا بذلك رحلتها الرأسية لمسافاتٍ غير محدودة، مع ضبط عوامل مثل درجة الحرارة والضوء والضغط لمحاكاة ظروف المحيط بدقة.
اقرأ أيضًا
خميرة ضوئية: إنجاز علمي يغير قواعد اللعبة في مجال العلوم والطاقة
على مدار السنوات الخمس الماضية، حمل براكاش وفريقُه البحثيّ مجاهرهم المُصممة خصيصًا على متن سفن الأبحاث، متجهين إلى جميع مُحيطات العالم الرئيسية – من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي. وفي رحلة استكشافية حديثة إلى خليج مين، قاموا بجمع عيناتٍ من الثلوج البحرية باستخدام مصائدٍ عُلّقت في الماء، ثمّ أجروا تحليلًا سريعًا لعملية غرق الجسيمات داخل مجهرهم الدوار. ونظرًا لأنّ الثلوج البحرية تُمثل نظامًا بيئيًا حيًا، فمن الضروري إجراء هذه القياسات في بيئتها الطبيعية داخل المحيط. وقد سمح هذا المجهر الدوار للفريق بمراقبة الثلوج البحرية بدقةٍ مُذهلةٍ – لأول مرة – في بيئتها الطبيعية، بدلًا من الاعتماد على مختبرٍ بعيد.
أذهلت النتائجُ الباحثين، فقد كشفت أن الثلوج البحرية تُكوّن أحيانًا هياكل مخاطية تشبه المظلات، مما يضاعف الوقت الذي تبقى فيه الكائنات الحية في المائة متر العليا من المحيط. ويُزيد هذا التعليق المُطوّل من احتمالية قيام الميكروبات الأخرى بتفكيك الكربون العضوي داخل جزيئات الثلوج البحرية، وتحويله مرةً أخرى إلى كربونٍ عضوي مُتاح بسهولة للعوالق الأخرى، الأمر الذي يعيق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
كيف نفهم الظاهرة؟
يُشير الباحثون إلى عملهم كمثالٍ على أهمية البحث القائم على الملاحظة، وهو أمر ضروري لفهم كيفية عمل حتى أصغر العمليات البيولوجية والفيزيائية داخل الأنظمة الطبيعية.
وفي هذا السياق، قال راؤول تشاجوا، المؤلف الرئيسي للدراسة وباحث ما بعد الدكتوراه في مختبر براكاش: ” تُخبرنا النظرية كيف يبدو التدفق حول جسيمٍ صغير، لكن ما شاهدناهُ على متن القارب كان مُغايرًا تمامًا. إننا لا نزال في بداية رحلتنا لفهم هذه الديناميكيات المُعقدة”.
يُسلّط هذا العمل الضوء على حقيقةٍ مهمة. فعلى مدار المائتي عام الماضية، درس العلماء الحياة، بما في ذلك العوالق، في مستوى ثنائي الأبعاد، مقتصرين على شرائح زجاجية تحت المجهر. ومن ناحيةٍ أخرى، يُعدّ إجراء الفحص المجهري بدقة عالية أمرًا صعبًا للغاية في أعالي البحار. لذا، يُؤكد تشاجوا وبراكاش على أهمية الخروج من المختبر وإجراء القياسات العلمية في بيئة الظاهرة الطبيعية قدر الإمكان.
ويُشدد الباحثون على أن دعم الأبحاث التي تُعطي الأولوية للمراقبة الميدانية يجب أن يكون أولويةً للمنظمات العامة والخاصة التي تُموّل العلوم.
يقول براكاش: “لا يُمكننا حتى طرح الأسئلة الأساسية حول ما تفعله الحياة دون محاكاة البيئة التي تطورت فيها. ففي علم الأحياء، إنّ تجريد الكائنات الحية من بيئتها يحرمنا من قدرتنا على طرح الأسئلة الصحيحة”.
وإلى جانب أهميتها في قياس احتجاز الكربون في المحيطات بشكلٍ مباشر، تكشف الدراسة أيضًا عن جمال الظواهر اليومية. فمثل ذوبان السكر في القهوة، يُعدّ هبوط الثلوج البحرية إلى أعماق المحيط عمليةً مُعقدة تتأثر بعوامل لا نراها أو نُدركها دائمًا.
يقول براكاش: “نحن نعتبر بعض الظواهر أمرًا مسلمًا به، ولكن حتى أبسطُ المُلاحظات يُمكن أن تؤثر بعمقٍ في فهمنا للعالم. إنّ مُلاحظة هذه التفاصيل الدقيقة – كخيوط المخاط في الثلوج البحرية – تفتح آفاقًا جديدةً لاستكشاف أسرار كوكبنا”.
يعمل الباحثون حاليًا على تحسين نماذجهم، ودمج مجموعات البيانات في نماذج عالمية شاملة، وإصدار مجموعة بيانات مفتوحة من البعثات الاستكشافية الست التي أجروها حتى الآن في مُختلف أنحاء العالم. وستشكّل هذه المجموعة أكبر قاعدة بيانات في العالم لقياسات ترسب الثلوج البحرية المباشرة. كما يهدفون إلى استكشاف العوامل التي تؤثر على إنتاج المخاط، مثل العوامل البيئية المُسببة للتوتر أو وجود أنواعٍ مُحددةٍ من البكتيريا.
“مُلاحظة هذه التفاصيل الدقيقة – كخيوط المخاط في الثلوج البحرية – تفتح آفاقًا جديدةً لاستكشاف أسرار كوكبنا”
مانو براكاش، المؤلف الرئيسي للدراسة، والأستاذ المساعد في الهندسة الحيوية والمحيطات بكلية ستانفورد للهندسة
وعلى الرغم من أن اكتشاف الباحثين يُمثل تحولًا كبيرًا في طريقة تفكير العلماء بشأن آليات احتجاز الكربون في المحيطات، إلا أن براكاش وزملاءه ما زالوا متفائلين. ففي رحلة استكشافية حديثة قبالة ساحل شمال كاليفورنيا، اكتشفوا عمليات من الممكن أن تساهم في تسريع احتجاز الكربون.
لا يخفي براكاش اندهاشه من عالم العوالق، قائلاً: “في كل راقب عالم العوالق من خلال أدواتنا، أتعلم شيئًا جديدًا”.