28 أبريل 2021، كان يومًا رائعًا بكل ما تحمله الكلمة من معان، رقص فيه الطفل “أكوك” بسعادة بالغة، وملأت الفرحة قلبه، وهي أحاسيس قلما يشعر بها من أجبروا على الهجرة وترك بلادهم رغمًا عنهم.
لكن الأقدار كتبت لهذا اليوم السعيد نهاية مرعبة، لن تنمحي تفاصيلها أبدًا في ذاكرة من عاشوها.
(1)
أكوك أكول أكول، 14 عامًا، طفل من دولة جنوب السودان، جاء رضيعًا إلى مصر مع عائلته قبل 13 عامًا هربًا من الفقر والجوع والصراع الذي مزق موطنه.
يعيش أكوك الذي يعاني من التلعثم وعسر التلفظ بسبب مرض في لسانه، مع والدته وإخوته في حي عين شمس الفقير بضواحي القاهرة، بعدما حصلوا جميعًا على حق اللجوء عبر المفوضية السامية لشئون اللاجئين.
خرج أكوك من منزله عصر الأربعاء ملبيًا دعوة ابنة خالته التي تسكن في حي دير الملاك بوسط القاهرة، لاجئة في مصر أيضًا، للاحتفال معها بيوم مولدها، مصطحبًا معه بنات خالته الأخرى- لاجئات أيضًا- واللاتي يسكن بالقرب منه في نفس الحي.
ظل الحفل حتى فجر الخميس، وقتها انتبه أكوك أن الوقت قد تأخر كثيرًا، كان عليه العودة إلى منزله في السادسة صباحًا، قبل ذهاب أمه للعمل، ليرعى إخوته الصغار، وقبلها لا بد أن يصطحب بنات خالته الأخرى إلى منزلهم القريب من منزله في حي عين شمس.
طلب منهم أقاربهم في حي دير الملاك البقاء حتى الصباح، لكن أكوك أصر على الرحيل، وتحرك ومعه بنات خالته الثلاث، 15 و16 و17 عامًا، وركبوا معًا عربة “توكتوك” صغيرة.
ومن هنا بدأت القصة.
(2)
في أغلب الأحيان، قلب أكوك لا يخدعه، لذا استسلم بعض الوقت لإحساس غامض داخله بأن خطرًا ما سيعترض طريقهم إلى المنزل، هكذا تسير الأمور دائمًا في هذا البلد الغريب، لا يوم يمر دون مصائب أو أزمات أو منغصات في أفضل الأحوال.
كان يدرك أيضًا أن خروجه في ذاك الوقت المتأخر، حيث الشوارع والحارات المظلمة في حي فقير مليء بالبلطجية ومحترفي الإجرام، هو مقامرة بحياته وحياة من معه، لكن ما باليد حيلة.
أخذ قلبه يطلق إنذارات الخطر وازدادت ضرباته بعنف، والوقت يمر بثقل غير عادي، وهو يحلم باللحظة التي يصل فيها بقريباته إلى منزلهن بأمان، ويلحق أمه قبل السادسة صباحًا.
حاول السيطرة على انفعالاته ومخاوفه كي لا تتسلل لبنات خالته، فشرع لتهدئة نفسه المضطربة بالسخرية منها، لماذا تخشى البلاء قبل وقوعه؟ هكذا قال لنفسه.
نجحت حيله النفسية في تهدئة قلبه الصغير بعض الوقت، ورسم على وجهه ابتسامة تبدو مطمئنة وهو ينصت لإحدى قريباته التي تستعيد بخفتها المعهودة أبرز حكايات اليوم السعيد، حتى سمع ذاك الصوت القادم من بعيد.
(3)
دراجات نارية تلاحقهم على ما يبدو، صوت محركاتها المختلطة بزعيق آلة التنبيه الحادة يصم الآذان، عاد قلب أكوك يدق بعنف، وكأنه يصرخ من داخله: كنت على حق.
بعد لحظات قليلة، لمح دراجتين ناريتين بالقرب من “التوكتوك”، واحدة على اليمين والأخرى على اليسار، وقائداها يشيران لسائق التوكتوك كي يقف ويصرخان معًا: قف يا “أسطة”.
أكوك كان ينتفض رعبًا بالمعنى الحرفي، انكمشت الفتيات ذعرًا واحتضن بعضهن البعض بعد ما اخترقت نظرات الشهوة المقيتة أجسادهن.
سائق التوكتوك شعر بالقلق هو الآخر، حاول أن يتجاوزهما بمركبته الصغيرة، فأطلق لها العنان، لكنهما نجحا في اللحاق به وقطعا الطريق أمامه بدراجتيهما ليجبراه على الوقوف، وقد كان.
نزل ثلاثة شباب من فوق الدراجات النارية وأشهروا “مطواة” في وجوه الجميع، وجذب أحدهم السائق من ياقة قميصه بعنف قائلًا: أين تذهب بهؤلاء السودانيين؟
رد السائق: هم زبائن، أوصلهم للمكان الذي يريدونه.
جذب الشاب الأول السائق إلى خارج التوكتوك وذهب به بعيدًا وتحدث معه لدقيقتين، بينما الشابان الآخران يحيطان بالتوكتوك من اليمن واليسار لمنع فرائسهم من الهروب.
عاد الشاب الأول بمفرده، ووقف السائق بعيدًا يتابع ما يحدث باستسلام.
يبدو أن صفقة ما عقدت للتو بين الطرفين.
(4)
اقترب الشاب الأول من أكوك وقريباته وأمرهم جميعًا بالنزول من التوكتوك، فنفذوا الأمر صاغرين، وبدأ استجواب سريع لأكوك: إلى أين تذهبون؟ من أين جئتم في هذا الوقت المتأخر؟ من أي بلد أنتم؟ ما علاقتك بهؤلاء العاهرات؟
كان أكوك يرد بكلمات غير مفهومة، فالرعب ضاعف عقدة لسانه العليل أصلًا، وكلما نطق بكلمة لا يفهمها الشاب الأول، انهالت الضربات على وجهه وجسده من البلطجية الثلاثة، ردًا على ما اعتبروه تحديًا من الطفل الصغير لذواتهم المنتفخة، صارخين في وجهه: تكلم جيدًا يا ابن الـ……
أراد أن يخبرهم أن لديه خللًا في لسانه، ولا يقصد تحديهم على الإطلاق، لكنهم لم يسمعوه، وأخرج أحدهم قداحته وأشعلها بالقرب من وجهه، فانتفض أكوك وحاول الإفلات من أيديهم، فعاقبوه على ذلك بحرقه في أماكن حساسة في جسده.
تعالت صرخاته مستغيثًا من هذا العذاب، وشاركته الفتيات الثلاث الصراخ، كانوا يعلمون أن الطريق الخالية في هذه الساعة لن تجود عليهم بمنقذ أو معين، لكنها مجرد محاولة.
بعد دقائق من التعذيب بالحرق، اقترب الشاب الأول من وجه أكوك المذعور، وزفر أنفاسه الكريهة في وجه الطفل وهو يحذره: لو تتبعتنا سنقتلك.
اقتاد البلطجية الفتيات الثلاث إلى شقة في شارع آدم، بالقرب من منطقة الألف مسكن، وتركوا أكوك خلفهم على بعد أمتار قليلة.
وقف أكوك في عرض الطريق يبكي، كان شعوره بالخزي بعد ما اختطفوا قريباته دون أن يتمكن من حمايتهن، أقوى بكثير من شعوره بآلام الحرق التي أنهكت جسده.
بعد لحظات، قرر أن يلاحقهم، لعله يتمكن من إنقاذ الفتيات، أو يجد من يعينه على هذه المهمة، وبالفعل، أخذ يعدو نحو شارع آدم القريب، لكنه لم يستطع تمييز البناية التي صعد إليها البلطجية من باقي بنايات الشارع.
ماذا يفعل؟ أخذ يصرخ بأعلى صوته طالبًا النجدة من الأهالي، لكن لا أحد يسمعه في هذه الساعة، الكل يغط في نوم عميق.
بعد أكثر من 15 دقيقة من الصراخ المستغيث بلا جدوى، فتحت سيدة خمسينية نافذة شقتها في الطابق الأول بإحدى بنايات الشارع، هنا التقط أكوك أنفاسه، لعلها المنقذ المنتظر، هكذا قال لنفسه، أو بالأحرى، هكذا أعتقد.
(5)
قبل 15 دقيقة، صعد البلطجية الثلاثة إلى الطابق الأول بإحدى بنايات شارع آدم، وبصحبتهم الفتيات الثلاث.
على باب المنزل استقبلتهم سيدة خمسينية، والدة الشاب الأول، ودار بينها وبين ابنها حوار سريع، ثم أغلقت الباب بإحكام، لتبدأ مع الابن وصديقيه أولى حفلات تعذيب الفتيات.
استمر حفل التعذيب خمس دقائق تقريبًا، وانتهى بعد أن قرر الشباب الثلاثة اقتياد الفتيات إلى غرف نوم منفصلة لاغتصابهن والاعتداء عليهن جنسيًا، بمباركة وقبول الأم.
بعد أن هدأت صرخات الفتيات واستسلمن للمغتصبين، سمعت الأم صرخات أخرى قادمة من الشارع، فاتجهت مسرعة نحو النافذة لترى أكوك واقفًا بمفرده في وسط الطريق، فاستدعت ابنها، وأمرته بوقف اغتصاب الفتاة التي كانت معه في إحدى الغرف مؤقتًا، والصعود بأكوك فورًا قبل أن يفضح جريمتهم.
في غضون ذلك، كانت الفتاة، التي أنقذها القدر من جريمة اغتصاب كاملة، بمفردها في غرفة النوم، وبعد لحظات من التفكير، اتخذت قرارها وقفزت من نافذة الغرفة، لتهرب من مصير أسود كان في انتظارها بمجرد عودة الشاب الثالث بصحبة أكوك.
تزامن دخول أكوك للشقة، مع خروج الفتاتين الأخريين من غرف النوم بعد اغتصابهن، وبدأ حفل تعذيب جديد للثلاثة بمشاركة الأم أيضًا.
ضرب المعتدون الفتاتين بعصا حديدية، وجردوهما من ملابسهما، وصوروهما عاريتين، وقصوا شعر إحدى الفتاتين بعد أن أحرقوه بالنار، ثم اعتدوا عليهما جسديًا مرة أخرى.
فيما نال أكوك نصيبه هو الآخر من ضربات العصا الحديدية والصفعات ونيران القداحات، قبل أن يقتاده الشاب الأول وأمه إلى المطبخ.
وقفت السيدة الخمسينية تحدد لأكوك المهام التي يجب أن ينجزها بسرعة وكفاءة، من غسل أواني الطعام إلى تنظيف المطبخ بكامله، ثم وقفت تصور ابنها بهاتفها المحمول وهو يركل مؤخرة أكوك كي يعي جيدًا مغبة التقاعس عن العمل المكلف به.
بعدها، أصدرت الأم أوامرها للفتاتين بتنظيف باقي المنزل، وأعلنت فرمانًا صارمًا، بأنهم جميعًا لن يغادروا محبسهم قبل موعد الإفطار عقب أذان المغرب، حتى لو انتهوا من أعمال النظافة قبل ذلك.
كان اليوم هو السابع عشر من شهر رمضان، وكانت الأم صائمة على ما يبدو.
(6)
بعد ساعات من الحبس والتعذيب والاعتداء الجنسي، بدأ الجيران في شارع آدم التجمع على صوت صراخ الضحايا الثلاث، فحبس المعتدون الضحايا في منور البناية وهربوا، بينما أخلى الجيران سبيل الأطفال الثلاثة.
عاد أكوك لمنزله في العاشرة صباح الخميس، لم يخبر أمه بما حدث، خوفًا من ملاحقة المجرمين له، ولم تلحظ هي آثار التعذيب على جسده.
في اليوم التالي علمت الأم بما وقع لابنها وبنات أختها، بعد ما نشر أحد المعتدين مقطع فيديو لأحدهم يعتدي على أكوك، على تيك توك، وقررت اتخاذ إجراءات قانونية ضد المعتدين.
ذهبت والدة أكوك إلى قسم شرطة عين شمس بالقاهرة لتحرير محضر ضد المعتدين، لكنها وجدت نفسها محاصرة داخل نفس الدائرة المغلقة التي يعاني منها الكثير من اللاجئين في مصر.
يرفض قسم الشرطة تحرير أي بلاغات يتقدم بها لاجئ في مصر دون تقديم أوراق الإقامة الخاصة بالمعتدى عليه، ويطلب تقريرًا من المفوضية أو السفارة لتحرير المحضر، وأحيانًا ترفض السلطات داخل القسم تحرير المحاضر حتى لو كانت الأوراق المطلوبة متوفرة وكاملة، وقد يتسبب اعتراض اللاجئ على هذا التعسف في حبسه أو الاعتداء عليه.
ذهبت أم الضحية إلى المفوضية السامية لشئون اللاجئين لإبلاغهم بالواقعة، لكن طردوها أيضًا، على حد قولها، لعدم وجود موعد، كما ذهبت لمنظمة “سان أندرو”، التي توفر دعمًا للاجئين، من ضمنه الدعم القانوني، لكن أخبروها هناك أنهم ليس لديهم علم بالأمر من المفوضية، ولن يساعدوها.
كانت الوقائع سالفة الذكر هي السر خلف الفيديو الذي انتشر، خلال اليومين الماضيين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأظهر اعتداءً جسديًا وألفاظًا عنصرية من شاب مصري ضد طفل من جنوب السودان.
عن طريق استخدام المصادر المفتوحة تتبعنا الفيديو المنتشر على شبكة الإنترنت للوصول إلى الطفل وعائلته لنكشف حقيقة ما حدث معهم، والتقينا أكوك ووالدته، وحكى لنا تفاصيل الواقعة بالكامل.
(7)
عادة ما تؤكد القاهرة على المعاملة الطيبة للاجئين ودون تمييز، وفي أكثر من مناسبة تؤكد الحكومة المصرية أن البلاد تستضيف 5 ملايين لاجئ من مختلف الدول العربية والأفريقية المجاورة، لا يقيمون في مراكز أو معسكرات إيواء.
رصدت آخر إحصائية لمفوضية اللاجئين الصادرة في يناير 2022، استضافة مصر أكثر من 270 ألف شخص من طالبي اللجوء المسجلين واللاجئين من 65 دولة مختلفة، غالبيتهم من سوريا تليها السودان وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال.
وفق المفوضية السامية لشئون اللاجئين، يعد أكوك واحدًا من ضمن 20.348 لاجئ أو طالب لجوء من دولة جنوب السودان، فروا إلى مصر تاركين ديارهم نتيجة الصعوبات الاقتصادية المستمرة وعدم الاستقرار والصراع، والوضع الإنساني المتدهور.
اكتشف معظمهم فيما بعد، أنهم هربوا من جحيم الصراع والجوع إلى جحيم العنف والعنصرية، فبعضهم يتعرض بشكل مستمر لاعتداءات بدنية وجنسية بخلاف السرقة والتنمر، وفق الوقائع التي ذكرها لنا بعض اللاجئين المقيمين بحي عين شمس بالقاهرة، وتؤكدها مئات البلاغات المقدمة للمفوضية.
يحكي لنا ” فيكتور” لاجئ سوداني مقيم بحي عين شمس: نعاني من المضايقات والمعاملة العنصرية من قبل مصريين، وغياب الحماية من السلطات في نفس الوقت، كما تتأخر المفوضية في إعادة التوطين بشكل مبالغ فيه”.
أكد انا فيكتور أن العنصرية والمضايقات اللفظية والجسدية أصبحت جزءًا من حياتهم اليومية، لا يمر يوم واحد دون أزمات.
يضيف فيكتور: “ليت الأمر يتوقف عند المضايقات والملاحقات العنصرية، بل يصل الأمر في بعض الأحيان للتعدي على أرواحنا وأملاكنا”.
قبل واقعة أكوك بأسبوع، صعد مجموعة من البلطجية إلى منزل لاجئة جنوب سودانية في عين شمس، وسرقوها وهددوا باغتصابها واغتصاب بناتها إذا أبلغت الشرطة عن واقعة السرقة.
أبلغنا فيكتور بالقصة وطلبنا منه مقابلة اللاجئة المعتدى عليها، فاصطحبنا إلى منزلها، وطلبنا منها تفاصيل أكثر عن الواقعة لكنها رفضت الحديث مطلقًا خوفًا على حياتها وحياة أسرتها من تهديدات المجرمين.
(8)
يتوزع اللاجئون الجنوبيون في مصر على ثلاث أحياء رئيسية: عين شمس ومدينة نصر والمعادي.
يعيش الفقراء منهم، وهم أغلبية، في حي عين شمس بشرق القاهرة، وهو حى تاريخي أسسه المصريين القدماء قبل مئات السنين، وينقسم إلى عين شمس الشرقية وعين شمس الغربية، ويفصل بينهما خط سكك حديد القاهرة السويس وخط مترو الأنفاق (المرج – حلوان).
حتى ستينيات القرن العشرين، كان الحي واحدًا من أعرق أحياء القاهرة، وبه عدد كبير من القصور الفخمة، أشهرها سراي الأمير يوسف كمال الذي صوّر به الفنان المصري عبد الحليم حافظ إحدى أغاني فيلم الخطايا.
خلال نصف قرن أو أكثر، تحول الحي الراقي إلى بقعة عشوائية خطيرة في قلب القاهرة، يسكنها فقراء العاصمة، ويحتمي بجدرانها المتهالكة جميع أصناف المجرمين والخارجين عن القانون، من السارقين لتجار المخدرات.
يلجأ معظم القادمون من جنوب السودان إلى مصر للسكن في حي عين شمس، نظرًا لأن قيمة إيجار المنازل والغرف الصغيرة هناك منخفضة لحد كبير، وفي متناول أيديهم.
يقول “دينج” أحد اللاجئين السودانيين المقيمين بعين شمس: “معظمنا لا يملك أموالًا كافية للسكن في حي أكثر أمانًا ونظافة، البلطجة والمخدرات في كل مكان هنا، لكن الغرف أسعارها رخيصة، تناسب أجورنا الزهيدة التي نحصل عليها من أعمالنا”.
يعمل اللاجئون السودانيون في مصر في ظروف صعبة للغاية، فمعظمهم من العمالة المؤقتة، يتقاضون أجور يومية زهيدة، دون توفير حوافز أو حقوق أو تأمين.
أوضح دينج أن من بين الوافدين من يعمل في جهة ما مدة تزيد على 6 أشهر لكنه لا يحصل في النهاية على زيادة أو تأمين عمل.
وقال: “معظمنا يعيش بالكاد، فالأجور زهيدة والعمل غير مستقر، وأسعار الطعام والسكن هنا مرتفعة، فلا بديل أمامنا، ماذا نفعل؟”
وفق دينج، لم يتوقف الأمر عند وقائع السرقة والتنمر والعنصرية والإهانات المتكررة ضدهم بشكل يومي، بل يصل الأمر في بعض الأحيان للإجبار على العمل بالسخرة.
يضيف: “لدينا وقائع عديدة حول إجبار أهالي الحي لبعض الشباب والشابات والأطفال على العمل بالسخرة، وتنفيذ أعمال نظافة منزلية مرهقة مقابل مبالغ زهيدة جدًا، ومن يرفض يتعرض لاعتداءات عنيفة”.
التقينا بعدها بـ “سون”، 17 عامًا، روى لنا قصته مع أحد الأشخاص الذي أجبره على تنظيف منزله أسبوعيًا، ولمدة عام كامل، بلا مقابل، قبل أن يتدخل أحد كبار المنطقة لإنهاء ذلك.
يقول سون: “لا نملك الرفض، من يعترض يتعرض للضرب والملاحقة، وأعرف أكثر من حالة تعرضت لنفس الأمر، بعضهم ترك الحي وهرب من السخرة والاعتداءات المتكررة، والبعض الأخر لا يمكنه الانتقال من هنا بسبب ضيق الحال والظروف المعيشية الصعبة”.
(9)
“لماذا لا يتقدم الضحايا ببلاغات للسلطات في مصر ضد المعتدين عليهم؟” سألنا ماركو، لاجئ سوداني في مصر وأحد النشطاء المحليين بمجتمع اللاجئين من جنوب السودان في منطقة عين شمس.
فأجاب: “لدينا حالات كثيرة ومتكررة، اعتداءات جنسية، وعنصرية وسرقة، وفي حال ذهب المعتدى عليه لقسم الشرطة، ترفض السلطات عمل أي بلاغات لمن لا يملكون إقامة في مصر، ومعظم الضحايا طالبي لجوء لم يحصلوا على إقامة بعد، وفي هذه الحالة يجب أن يحصل الضحية على خطاب من المفوضية، أو السفارة، يحمل تفاصيل حول هويته الحقيقية كي يتمكن من التقدم ببلاغ”.
الحصول على خطاب من المفوضية أو السفارة أمر في غاية الصعوبة كما أبلغنا ماركو، لذا يلجأ البعض لترك الحي إن كانت لديه قدرة مادية تمكنه من ذلك، بينما البعض الأخر يجبر على الصمت والتعايش مع الإهانة والعذاب.
يضيف ماركو: “حتى من ينجح في الحصول على الخطاب من المفوضية أو السفارة، فرصته في عمل محضر ضئيلة للغاية، ففي معظم الأحيان، يطرده العسكري من على باب القسم، وإذا اللاجئ أصر على الدخول وجادل العسكري، قد يتعرض للسب والوعيد بالحبس”.
ويتابع: “اللاجئ مجبر على البقاء هنا، والمفوضية لا تفعل أي شيء لنا”.
حاولنا التواصل مع أحد المسؤولين داخل مقر مفوضية شؤون اللاجئين في مصر للرد على الاتهامات الموجهة لهم بالتقاعس عن حماية اللاجئين السودانيين، لكنه رفض التعليق.
يقول ماركو: “تقصير المفوضية تجاهنا لا يتوقف عند تجاهل بلاغاتنا والتقاعس عن حمايتنا، بل يمتد للتأخر في إعادة توطيننا بشكل مبالغ فيه”.
تساعد المفوضية في إعادة توطين اللاجئين في بلدان ثالثة، وهي عملية نقل اللاجئين من دولة اللجوء إلى بلدٍ آخر يوافق على السماح لهم بالدخول، ويمنحهم الإقامة الدائمة في نهاية المطاف.
تتولى المفوضية– بموجب نظامها الأساسي وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة– مسؤولية إعادة التوطين ووصل عدد اللاجئين الذين ينضوون تحت ولاية المفوضية حول العالم إلى 20.4 مليون شخص بنهاية عام 2019.
يقول ماجد سعيد محامي حقوقي مهتم بقضايا اللاجئين السودانيين في مصر: “معظم الطلبات تستغرق فترات طويلة أكثر من المعتاد قبل أن يبت فيها من قبل المفوضية، تصل أحيانًا لسنوات، ما يزيد من معاناة طالبي اللجوء وعدم استقرار حياتهم”.
ما زاد الأمور تعقيدًا أن بعض الدول أعلنت رسمياً قبل شهور عن تعليق برامجها لإعادة التوطين بسبب كورونا، ما يعني المزيد من الانتظار.
هذا ما أكدته أيضًا مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، في بيان لها نهاية العام الماضي، قالت فيه إن أعداد إعادة توطين اللاجئين ستكون “منخفضة بشكل قياسي” في 2021، حيث أعيد توطين 15,425 شخصا فقط في الأشهر التسعة الأولى من عام 2020، مقارنة بأكثر من 50 ألفا عام 2019.
يضيف سعيد: “لا نملك وسيلة للضغط على المفوضية من أجل تسريع عملية البت في طلبات اللجوء سوى الاحتجاج والتظاهر، وبعض السودانيين نظموا بالفعل وقفة احتجاجية أمام مقر المفوضية، لكن بعضهم تعرض للاعتقال من قبل السلطات، ثم أفرج عنهم مع تعهدات بعدم تكرار الأمر، الآن لا يوجد حلول، لا نعرف لمن نتحدث ولا نعرف من لديه القدرة على حل هذه الأزمات المتشابكة”.
(10)
قضية أكوك لن تكون الأخيرة إذا لم تنتبه مفوضية اللاجئين والمؤسسات في مصر إلى تبني حملات توعية داخل المجتمع بخطورة جرائم العنصرية والتنمر والاعتداء البدني والجنسي على اللاجئين، وتوفير حماية حقيقية وكاملة للضحايا والناجين والشهود في قضايا العنصرية والعنف والتعذيب.
قصة أكوك لم تنته بعد، فالأم ستقاتل لمحاسبة المعتدين، ولن تترك حق الأطفال الأربعة، أما نحن، فسنكتب مرة أخرى، أو مرات إذا لزم الأمر، عن أكوك ومن هم مثله، حتى يحاسب الجناة.