يبدو أنه لا مفر من زيادة درجات الحرارة العالمية بنحو 2.4 درجة مئوية بنهاية القرن، وهي زيادة أعلى بكثير من المستويات الآمنة التي حددها الخبراء والجهات الدولية المختصة بـ 1.5 درجة مئوية بنهاية القرن، وذلك بعد ما تحطمت الآمال التي كانت معلقة على مؤتمر الأمم المتحدة للأطراف Cop26 في جلاسكو، لإلزام الدول بخفض الانبعاثات العالمية إلى النصف بحلول عام 2030، وهو ما لم يتحقق.
أصبح أكثر السيناريوهات تفاؤلًا هو اقتصار الاحترار على 1.8 درجة مئوية هذا القرن، بشرط التزام بعض البلدان بتنفيذ أهداف طويلة الأجل لوقف زيادة مستوى غازات الدفيئة في الغلاف الجوي- “صافي الصفر”- بحلول عام 2050 أو 2060 في أقصى تقدير، بجانب التكيف مع المناخ عبر اتخاذ اجراءات واسعة النطاق من أجل.
تلك النتائج والتوقعات تشير إلى أن العالم لا بد أن يكون أكثر واقعية خلال السنوات المقبلة، وأن ينتقل بسلاسة من مربع التركيز على استراتيجية التخفيف، التي حظت بالاهتمام الأكبر على المستويين السياسي والتمويلي خلال السنوات الماضية، إلى مربع التركيز على استراتيجية التكيف.
هناك نوعان من الاستراتيجيات الرئيسة في الاستجابة العالمية لتغير المناخ وهما: التخفيف والتكيف.
ويشير التخفيف إلى اتخاذ اجراءات للحد من إجمالي مستويات غازات الاحتباس الحراري “غازات الدفيئة” التي تدخل الغلاف الجوي في المقام الأول.
أما التكيف مع المناخ فيعني العمل على تقليل الآثار الضارة لتغير المناخ عبر التعديل في النظم الطبيعية أو البشرية استجابة للمثيرات المناخية الفعلية أو المتوقعة أو تأثيراتها.
ذلك الانتقال لا بد أن ينعكس بدوره على السياسة التمويلية والاستثمار المستدام في تغير المناخ.
ما يعني أن رؤوس الأموال والعقول الاستثمارية الكبرى التي تضخ أموالها في مشروعات واستثمارات تغير المناخ، سوف تبدأ في التعامل مع الأمر الواقع، وتركز على ما سوف يحدث عندما ترتفع درجات الحرارة، وبالتالي توجه جل استثماراتها أو معظمها ناحية مشروعات التكيف مع المناخ وليس التخفيف.
تقول وكالة رويترز في أحدث تقاريرها عن الاستثمار المناخي إن الاستثمار المستدام العالمي سيركز عام 2022 على الخطة (ب)، تقصد خطة التكيف مع المناخ، باعتبارها الفرصة الأخيرة للبشرية لتفادي وقائع كارثية بسبب تغير المناخ، وذلك بعد ما فشل مؤتمر الأطراف في جلاسكو في الضغط على الدول الكبرى لتخفيض الانبعاثات للنصف بنهاية العقد الجاري.
في السابق، كان الاستثمار الأمثل في تغير المناخ يركز على مشروعات التخفيف، فمثلًا، كان المستثمرون المناخيون يشترون حصصًا في شركة طاقة متجددة مثل Orsted الدنماركية البالغ رأسمالها حوالي 52 مليار دولار، لتخفيف انبعاثات الكربون وإبطاء الاحترار العالمي، حيث تعمل الشركة على إدارة موارد الغاز والنفط والكهرباء في الدنمارك، وتعد أكبر مطور في العالم لطاقة الرياح البحرية، وتنتج 88٪ من طاقتها من مصادر متجددة، وتسعى إلى تحقيق صافي توليد صفري بحلول عام 2025 وعدم وجود انبعاثات كربونية بحلول عام 2040.
لكن يبدو أن بوصلة الاستثمار الدولي سوف تتجه بقوة ناحية مشروعات التكيف مع المناخ، وهو ما ظهر جليًا في قمة المناخ COP26، عندما ركزت الأطراف على دعم استراتيجية التكيف، ما دفع الدول الغنية إلى مضاعفة تمويلها السنوي لخطط التأقلم مع آثار تغيرات المناخ، والموجه بالإساس إلى البلدان النامية، من 20 مليار دولار إلى 40 مليار دولار، وذلك لمكافحة ارتفاع منسوب مياه البحر والجفاف والعواصف الأكثر عنفًا.
اقرأ أيضًا.. الاحتباس الحراري يهدد 10 محاصيل زراعية في مصر “الطماطم في خطر”
مستقبل استثمارات التكيف مع المناخ
يعتقد بنك أوف أمريكا أن سوق التكيف مع المناخ الكلي سيتضاعف إلى 2 تريليون دولار سنويًا في غضون السنوات الخمس المقبلة.
تقول اللجنة العالمية من أجل التكيف مع المناخ التابعة للأمم المتحدة إن استثمار 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2030 في أنظمة الإنذار المبكر، والبنية التحتية المرنة، وإنتاج المحاصيل الزراعية في الأراضي الجافة، وإدارة الموارد المائية، وزراعة أشجار المانجروف التي تملك قدرة خاصة على تخليص الغلاف الجوي من ثاني أكسيد الكربون الضار وتخزينه، سيحقق أكثر من 7 تريليونات دولار من الفوائد في تجنب التكاليف الناجمة عن آثار تغير المناخ.
سوف يركز الاستثمار في المناخ مستقبلًا على قطاعات بعينها لتحقيق استراتيجية التكيف مع المناخ، مثل قطاعات المواد الكيميائية والهندسة والمياه.
ستكون شركة سينجينتا Syngenta السويسرية مثلًا، التي طرح مالكها الصيني أسهمها في البورصة بقيمة 60 مليار دولار قبل شهور قليلة، أول المستفيدين المحتملين من هذا التحول في بوصلة الاستثمار المناخي، وذلك لأنها تنفق حوالي ملياري دولار سنويًا على البحث والتطوير لمساعدة المزارعين في الحفاظ على الإنتاجية وتجنب الأضرار الناجمة عن ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، فيما يخص محاصيل مثل الملفوف “الكرنب” والذرة المقاومة للجفاف ذات الجذور العميقة، ومبيدات الفطريات لمنع تعفن المحاصيل التي دمرتها الفيضانات، ومتغيرات الحبوب التي تقصر وقت تسمين اللحم البقري.
ومن المحتمل أيضًا أن تنال منافستها الألمانية باير (BAYGn.DE)، التي يبلغ رأسمالها 50 مليار دولار، جانبًا من اهتمام الاستثمار المناخي في المستقبل القريب.
في القطاع الهندسي، سوف تضخ الاستثمارات المناخية في شركات هندسية عملاقة مثل (WSP Global) الكندية، والتي يبلغ رأسمالها 16 مليار دولار، لمساعدة البلديات في إعادة تصميم البنية التحتية للحماية من الفيضانات.
وفي قطاع المياه، من المتوقع أن تحظى شركة Veolia الفرنسية بعقود ضخمة من أجل تحلية المياه في المناطق المتضررة من الجفاف لجعل المياه المالحة صالحة للشرب.
تلك مجرد أمثلة، لكن هناك طرق أكثر لضخ الاستثمارات في مجالات عدة بهدف التكيف مع المناخ والتحوط من تغيراته. حتى الأفكار الجديدة مثل الهندسة الجيولوجية الشمسية لتعتيم الشمس وتبريد الأرض بشكل اصطناعي، ستكتسب اهتمام الاستثمار المناخي قريبًا.
جدير بالذكر أن بلدان العالم أقرت بالحاجة إلى تمويل خاص لمواجهة التغيرات المناخية في اتفاق باريس 2015، والذي دعا إلى جعل التدفقات المالية تتماشى مع مسار يؤدي إلى تنمية مستدامة، تضمن تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة وتستطيع تحمل تغير المناخ والتكيف معه، عبر جعل البنية التحتية أكثر قدرة على التحمل، ما يمكّن من تجنب الإصلاحات المكلفة ويقلل من العواقب واسعة النطاق للكوارث الطبيعية الناجمة عن تغيرات المناخ.
والتزمت البلدان الكبرى بجمع 100 مليار دولار سنويًا، بصفة مشتركة، بحلول عام 2020، من مجموعة متنوعة من المصادر، لتلبية احتياجات التخفيف والتكيف الملحة للبلدان النامية، لكن لم تنجح الدول الغنية في جمع أكثر من 80 مليار دولار، بما يقل بنحو 20 مليار عن الخطة المستهدفة، وذلك في عام 2019، وهي آخر سنة أُعلن فيها عن إجمالي ما جُمع من تمويلات، حيث تعثرت الخطة في 2020 بعد انشغال معظم دول العالم بمكافحة جائحة كوفيد-19.
وتوجه الدول نصيبًا كبيرًا من التمويل متعدد الأطراف المقدر بمليارات الدولارات من خلال الصندوق الأخضر للمناخ التابع للأمم المتحدة، لدعم البلدان النامية في تصميم وتقديم خطط عمل مناخية طموحة.
يتمتع الصندوق أيضًا بتفويض أساسي للحفاظ على التوازن بين التخفيف والتكيف مع المناخ في محفظته، وإشراك القطاع الخاص من خلال مرفق القطاع الخاص لتعبئة التمويل الخاص نحو استثمارات منخفضة الكربون ومرنة.
لكن حتى الآن لم يستطع الصندوق تحقيق التوازن المطلوب بين التخفيف والتكيف، ولا يزال تمويل التكيف يشكل نسبة صغيرة من تمويل إجراءات مواجهة التغيرات المناخية بشكل عام، ما يعادل حوالي 30 مليار دولار في المتوسط في عامي 2017 و2018، حيث أن الجزء الأكبر من التمويل الذي يتم تتبعه لا يزال يتدفق نحو أنشطة التخفيف.
من المتوقع أن يكون ملف تمويل التكيف مع المناخ عى رأس أولويات الأطراف في قمة المناخ المقبلة في شرم الشيخ 2022.