أزمة جديدة يسببها الاحتباس الحراري أو الاحترار العالمي وتغيرات المناخ، لم تكن في حسبان العالم طوال العقود الماضية، أعلنت عن نفسها بقوة هذه الأيام، وقد تتسبب في صراعات دولية طويلة المدى، وفقًا لمقال استقصائي مطول للكاتب الأمريكي “زي بول” نشرته صحيفة “ذا نيويوركر” الأمريكية قبل أيام.
عالج المقال تأثيرات التغيرات المناخية من زاوية مختلفة، حيث ألقى الضوء على تأثير تغيرات المناخ على الحدود الوطنية في المناطق المتجمدة، بما في ذلك الأنهار الجليدية التي تشكل الحدود بين سويسرا وإيطاليا.
لقرون، كان الوضع الحدودي بين البلدين مستقرًا، حيث أبقت الأنهار الجليدية سويسرا على جانب واحد من جبال الألب وإيطاليا على الجانب الآخر.
حيث أن ثلثي الحدود هو عبارة عن فجوة من مستجمعات المياه المتجمدة، وتمثل خط نظري معلق بين التلال الجبلية وحقول الجليد الدائمة والقمم الجليدية.
تلك الأنهار الجليدية التي تفصل بين البلدين الأوربيين، تذوب بهدوء منذ عقود، وسوف يختفي أكتر من نصفها بحلول عام 2050، وفق دراسات متخصصة.
لذا في عام 2009، ناقشت سويسرا وإيطاليا مسألة تغير الحدود مع ذوبان الأنهار الجليدية التي ترسم هذه الحدود، وأقرا بأن حدودهما ستتحرك، ولا بد أن يتعايشان مع ذلك.
ظهرت فكرة الحدود المتحركة في سبعينيات القرن الماضي، عندما لاحظ المكتب الفيدرالي النمساوي للمسح والقياسات أن الأنهار الجليدية في منطقة أوتزتال في جبال الألب لا تبدو كما كانت في الصور القديمة في أرشيف المكتب.
أدى ذلك إلى اتفاقية صيغت في العقد التالي تلزم الدول بقبول التغييرات في حدودها بناءً على عواقب تغيرات المناخ، بغض النظر عن الدولة التي ستستفيد من هذا التغيير أو الدولة التي ستفقد مساحة من أراضيها.
على عكس باقي أجزاء العالم الأخرى، لا يُتوقع أن تؤدي هذه التغييرات إلى توترات ونزاعات حدودية بين الدول الأوروبية، لكنها قد تكون سببًا للصراع في مناطق أخرى مثل جليد باتاغونيا بين تشيلي والأرجنتين، أو نهر سياتشين الجليدي في جبال الهيمالايا بين الهند وباكستان، اللتان يتصارعان بالفعل منذ عقود على إقليم كشمير.
ورغم أن هناك أيضًا استراتيجية لتثبيت الحدود الطبيعية، مثل ما فعلته الولايات المتحدة والمكسيك في الستينيات عندما اتفقا على بناء قناة ملموسة لمنع نهر ريو غراندي، وهو نهر يتدفق من جنوب غرب كولورادو في الولايات المتحدة ويصب في خليج المكسيك، من تغيير مساره بشكل أكبر، إلا أن تلك الاستراتيجية مكلفة جدًا، لن تتمكن معظم دول العالم من تحملها. وقد تتمسك بعض البلدان بحدودها الهيدرولوجية القديمة، ما يجعل نشوب الصراعات أمر وارد.
هذه الأمور تخلق واقعًا جديدًا يصطدم به العالم في الآونة الأخيرة، حيث أن السمات الجغرافية التي بدت ذات يوم وكأنها حدود طبيعية مثالية وثابته أصبحت غير مستقرة بطبيعتها، ومن المرجح أن تصبح أكثر تقلبًا في المستقبل بسبب تغيرات المناخ.
في كتاب صدر عام 2018 بعنوان “حدود متحركة: رسم خرائط جبال الألب بعد تغير المناخ” يشير مؤلفو الكتاب، وهم ماركو فيراري وأندريا باجناتو، مهندسان معماريان، وإليسا باسكوال، المصممة المرئية، إلى أن الاتفاقات الحدودية التقليدية ليست بالضرورة مجهزة للتعامل مع هذا النوع من التغيير البيئي.
ويطرح الكتاب مسألة الحدود المتحركة باعتبارها حل وسط قابل للتطبيق، ما يسمح للبلدان بالاحتفاظ بالتخطيط العام الخاص بها مع التخلي عن الإحداثيات الدقيقة.
عالم الأنثروبولوجيا بن أورلوف، من كلية المناخ بجامعة كولومبيا قال: “هذه التغيرات التي فرضها الواقع الحالي، توضح مدى جمود مؤسساتنا وسياساتنا، التي طُورت على أساس مناخ عالمي ثابت لا يتغير، فلم يتخيل أحد في الماضي أن تغيرات المناخ سيؤثر على الحدود الوطنية، لذا نحن بحاجة لقوانين جديدة، لأن العديد من القوانين الآن لا تصلح لعالمنا الجديد”.
اقرأ أيضًا.. الاحتباس الحراري يهدد القهوة.. والعالم يتجه نحو 3 بدائل للبن
منتجع يتحرك من مكانه بسبب تغيرات المناخ
تغيرت الحدود بين إيطاليا وسويسرا في أكثر من مائة مكان وفق “ذا نيويوركر”، ففي العام الأول للاتفاقية، جزء من منتجع تزلج إيطالي وجد نفسه على الأراضي السويسرية، وبات بين ليلة وضحاها يقع في سويسرا وإيطاليا في نفس الوقت، ويمر عن طريقه الخط الحدودي الجديد الذي رسم بعد تحرك الحدود.
مدير ومالك المنتجع، لوسيو تروكو، قال لـ “ذا نيويوركر” إن المكان إيطالي بلا شك، وخرائط جوجل على الإنترنت تؤكد ذلك. لكن الشريط الحدودي الواضح خارج المنتجع اختفى تمامًا مع ذوبان الجليد، واعترفت السلطات المحلية في البلدين بأن الخط الحدودي القديم لم يعد يفصل بين البلدين؛ ومع ذلك، لا يوجد إجماع حتى الآن على الوضع الجديد.
يضيف تروكو:”جاء السويسريون وقالوا إن المنتجع صار سويسريًا، وبعد أسبوع، جاء الإيطاليون وقالوا إنه إيطالي؛ لكن المكان لا يزال يعمل كمنتجع إيطالي، حيث يتقاضى الرسوم من العملاء باليورو، ويدفع الضرائب لهيئات الضرائب الإيطالية، لكن أي أمور أخرى تتعلق بوضعية المنتجع لا تزال غامضة”.
يواجه المنتجع مشاكل وأزمات عدة بسبب هذا الوضع الملتبس، فالبلديات الإيطالية والسويسرية المجاورة تتقاذف مسؤولية تراخيصه، وكل بلدية في الدولتين ترفض إصدار تراخيص بناء في المواقع الحدودية المتنازع عليها.
وأصبح إجراء عمليات تجديد وتطوير للمكان لغزاً إدارياً شديد الغرابة، كما أن البنوك الإيطالية تتردد في دفع أية تمويلات لمثل هكذا مشروعات.
ورغم رغبة وحرص الحكومات المحلية في البلدين على التعاون، لكنهم لم يتمكنوا حتى الآن من وضع حلول حاسمة للأزمة، لتهدئة مخاوف المالكين المتعلقة بأمور خدمية كالمياه والكهرباء وغيرها.
فالجانب الإيطالي متمسك بأن سياسة الحدود المتنقلة لا تنطبق على منتجع التزلج المتضرر، والمسؤولون الإيطاليون يؤكدون أن الاتفاقية كانت مخصصة فقط للأراضي الجبلية الشاغرة، وأن المفاوضين الأصليين ربما أغفلوا هذا المنتجع ببساطة.
بالإضافة إلى ذلك، يؤكد الجانب الإيطالي أن اتفاقية الحدود المتحركة الموقعة بين إيطاليا وسويسرا، تتعلق صراحةً بالتغير المناخي “التدريجي” و “الطبيعي”، وليس “التغيير المفاجئ من صنع الإنسان”، مثل بناء سد أو منصة رفع تزلج.
ولا ينفي الإيطاليون أن ذوبان الأنهار الجليدية في منطقة تيستا جريجيا، التي تحتضن المنتجع، قد تأثر بارتفاع درجات الحرارة، لكنهم يؤكدون في نفس الوقت أن الذوبان قد تم بوتيرة أسرع بسبب النشاط المستمر على المنحدرات الذي يقوم به عملاء المنتجع، بما في ذلك الاستمالة على الجليد ليلاً والتزلج الصيفي.
ملف المنتجع شهد زخمًا سياسيًا في البلدين، فقد أعلنت السلطات الإيطالية موقفها علنًا على لسان السياسي المحلي أوغوستو روليندين في اجتماع إقليمي بوادي أوستا في شهر مايو الماضي من هذا العام والذي حذر قائلاً: “إننا نجازف بفقدان إحدى جواهر جبلنا”.
وأضاف روليندين: “أحد أعضاء مجلس الشيوخ الإيطالي، الذي تبنى قضية المنتجع لسنوات، أخبرني أن المبنى ينتمي بشكل لا لبس فيه إلى إيطاليا، وفي حال تنازلنا عنه لسويسرا يجب أن نحصل على مقابل جيد”.
المفاوضات حول المنتجع، والمؤجلة منذ عام ونصف العام، استؤنفت في وقت سابق من هذا الشهر، حيث ناقش ستة مندوبين سويسريين وسبعة مندوبين إيطاليين مستقبل منتجع جبال الألب في اجتماع كبير في فلورنسا.
ساد الاجتماع “جو بناء وودي”، وفقًا لبيان صادر عن وكالة الخرائط السويسرية، وأرسل مسؤول سويسري رفيع رسالة نصية بعد المحادثات قال فيها: “إن المفاوضات ستنجح بين سويسرا وإيطاليا”.
وتؤكد كل من وكالتي رسم الخرائط الإيطالية والسويسرية أن التنازل عن المنتجع بالكامل لسويسرا سيكون نتيجة غير مرغوب فيها وغير مرجحة، رغم ذلك، يدرس الجانبين الآن الوضع بشكل علمي للوصول إلى اتفاق جديد، فإذا كانت العوامل البشرية هي السبب الرئيس في ذوبان الجليد كما يدعي الإيطاليين، وليس تغير المناخ الطبيعي، فمن المتوقع أن يبقى المنتجع إيطاليًا كما كان، ولن تضطر إيطاليا إلى التخلي عن أي شيء في المقابل، أما إذا كانت العوامل المناخية الطبيعية هي السبب، سينضم المنتجع لسويسرا، وربما تطالب إيطاليا بالمقابل.
حتى الآن، لا تزال المفاوضات مستمرة، ولا يوجد اتفاق رسمي بين البلدين، ومن غير المرجح أن تتم الموافقة على التسوية المستقبلية قبل عام 2023.
وحتى يأتي ذلك الحين، سوف يظل مالك المنتجع غارقًا في قلقه من احتمالية أن ينتهي بمنتجعه المطاف إلى سويسرا، حيث ارتفاع تكاليف المعيشة والضرائب في البلاد، ما يعني أنه سيضطر لرفع ثمن كوب القهوة من 2 يورو إلى 4 يورو، وقد يتسبب ذلك في فقدانه العديد من عملائه السابقين.
لكنه رغم القلق، يحاول التكيف مع الوضع الحالي والاستفادة منه بالقدر الممكن، لحين البت في أمر منتجعه، وقرر على إثر ذلك، تقسيم المطعم إلى نصفين بشكل دائم، نصف في سويسرا، بقائمة طعام مخصصة للسويسريين تحمل الأكلات المحببة لديهم، والنصف الأخر للإيطاليين بقائمة وأصناف مختلفة.