تضرب آثار تغير المناخ العالم كله بلا استثناء، وتترك بصمتها على جميع القطاعات ومناحي الحياة على الأرض، وقد يتسبب الطقس المتطرف الناجم عن تغيرات المناخ بشمال الكرة الأرضية في أزمات غذائية واقتصادية في جنوبها والعكس.
جاءت تصريحات شعبة البن التابعة للغرفة التجارية المصرية، عن وجود “نقص كبير” في مخزون البن في مصر، بسبب موجة الصقيع التي ضربت البرازيل، أكبر منتج للمحصول في العالم، لتؤكد من جديد على الأضرار التي تلحق بسلاسل التوريد العالمية بسبب تغير المناخ.
موجة الصقيع في البرازيل
استيقظ سكان البرازيل صباح يوم 20 يوليو على موجة الصقيع المفاجئة وغير المعتادة، والتي أدت إلى انخفاض درجات الحرارة لمستويات التجمد في غضون دقائق، موجهة ضربة قوية لحزام البن البرازيلي، بعد أن ألحقت أضرارًا بالأشجار وآفاق محصول العام المقبل.
موجة الصقيع البرازيلية هي استمرار لمسلسل سوء الأحوال الجوية والطقس المتطرف بشكل غير عادي- سواء فيضانات أو جفاف شديد- في جميع أنحاء النصف الغربي من الكرة الأرضية طوال الموسم، ما ألحق أضرارًا بالمنتجات الزراعية.
وفقًا لمعهد الأرصاد الجوية الوطني البرازيلي (Inmet)، تمر البلاد بأسوأ موجة برد منذ ما يقرب من 30 عامًا، حيث وصلت درجة الحرارة الدنيا في ميناس جيرايس -1.2 درجة مئوية.
قام المزارعون والسماسرة والمحللون بتقييم محاصيلهم قبل شهر تقريبًا، بعد تقارير تفيد بأن موجة البرد كانت أقوى بكثير من المتوقع.
قال ماريو ألفارينجا، منتج القهوة في مزرعتين في ميناس جيرايس: “لم أر شيئًا كهذا من قبل، كنا نعلم أن الطقس سيكون باردًا، وكنا نراقبه، لكن درجات الحرارة انخفضت فجأة عدة درجات عندما كان الوقت مبكرًا بالفعل”.
تلطخ البقع البنية مساحات كبيرة من حقول البن في جنوب ولاية ميناس جيرايس، أكبر منتج للقهوة في البرازيل.
شارك المزارعون صورًا لمحاصيلهم، حيث كانت تظهر مناطق سوداء كبيرة في الأماكن التي يجب أن يروا فيها بقعًا خضراء داكنة تحدد أشجار البن.
قال أرتون غونسالفيس، الذي يزرع 100 هكتار (247.11 فدانًا) من القهوة في باتروسينيو بمنطقة سيرادو في ولاية ميناس جيرايس: “سأضطر على الأرجح إلى اقتلاع حوالي 80 ألف شجرة، وحرقها حتى القاع”.
أضاف: “كنت ذاهبًا إلى المزرعة بالأمس وبدأ جهاز استشعار في الشاحنة ينبهني بشأن الجليد على الطريق. اعتقدت أن النظام قد جن جنونه. ولكن عندما وصلت إلى المزرعة، كانت مغطاة بالجليد، وكذلك السقوف والمحاصيل”.
يقدر غونسالفيس أن إنتاجه في عام 2022 سينخفض إلى حوالي 1500 كيس من 5500 كيس في المعتاد.
قالت آنا كارولينا ألفيس جوميز، محللة القهوة في اتحاد الزراعة في ولاية ميناس جيرايس، إن موجة الصقيع تم الإبلاغ عنه أيضًا في جنوب ميناس جيرايس وفي منطقة موغيانا في ولاية ساو باولو.
وأضافت: “الوقت وحده هو الذي سيحدد مقدار ما سنفقده. لدينا بالفعل محصول صغير هذا العام”.
قالت مؤسسة Cooxupe، أكبر جمعية تعاونية للبن في العالم، والتي تخطط لإصدار تقارير عما حدث في الأيام المقبلة، إن المهندسين الزراعيين زاروا المزارع لتقييم الأضرار المحتملة بشكل أفضل.
قال الوكيل التجاري تياجو كازاريني، الذي يعمل في فارجينها بجنوب ميناس، إن التقديرات الأولية من المصدرين والمهندسين الزراعيين تشير إلى احتمال انخفاض في محصول العام المقبل يتراوح بين مليون ومليوني كيس.
البرازيل هي أكبر منتج للبن في العالم، حيث أن مناخها هو الأكثر ملاءمة لإنتاج الحبوب، وارتفعت أسعار البن بنسبة 13٪ تقريبًا استجابةً لـ موجة الصقيع، ووصلت إلى أعلى مستوى خلال العامين الماضيين، وقفزت أسعار بن أرابيكا إلى أعلى مستوى في نحو سبع سنوات في الآونة الأخيرة.
اقرأ أيضًا.. الاحتباس الحراري يهدد القهوة.. والعالم يتجه نحو 3 بدائل للبن
زراعة القهوة في البرازيل
شكل الصقيع تهديدًا لأشجار البن منذ أن تم جلب المحصول لأول مرة إلى البرازيل في القرن الثامن عشر.
تعتبر الولايات المنتجة الرئيسة للبن في البرازيل، مثل ميناس جيرايس، أكثر عرضة للصقيع من المناطق النامية في البلدان الرئيسة الأخرى المنتجة للبن العربي مثل كولومبيا وإثيوبيا.
من المعروف أن زراعة القهوة تحتاج إلى ظروف مناخية محددة كي تتم بنجاح، وهي حساسة جدًا أمام تقلبات الطقس وتغيرات المناخ.
تعد القهوة من المحاصيل الاستوائية ولا تحب درجات الحرارة المنخفضة، خاصة إذا انخفضت إلى أقل من 5 درجات مئوية.
تعتبر درجات الحرارة تحت الصفر، حوالي -3 درجة مئوية إلى -4 درجة مئوية، عندما تتشكل بلورات الثلج في خلايا النبات، قاتلة للمحصول، وتدمر براعم الزهور والفواكه، وتسبب حروق الصقيع على الأوراق، مما يؤدي إلى تساقط أوراق شجرة البن.
يرجع أشد أشكال الضرر إلى تكوين بلورات الجليد، التي تثقب الخلايا داخل أجزاء النبات المصابة، مما يتسبب في تحولها إلى اللون الأسود فتموت، ويؤدي في النهاية إلى موت النبات.
يؤكد الخبراء أيضًا أن موجة الصقيع يمكن أن تكون مدمرة بشكل خاص إذا جاءت بعد فترة طويلة من الجفاف، مثل ما حدث هذا الموسم في البرازيل، حيث تذبل الأوراق بسبب موجات الجفاف الطويلة، مما يجعلها عرضة للموت مع انخفاض درجات الحرارة.
في بعض الحالات، قد يستغرق الأمر عامًا أو عامين للتعافي من موجة الصقيع، ولكن إذا ماتت أشجار البن وتعين استبدالها بالشتلات، فقد يستغرق الأمر أربع أو خمس سنوات للحصول على محصول لائق وما يصل إلى سبع سنوات لاستعادته بالكامل لأقصى مستويات الإنتاج.
أظهرت الأبحاث التي أجرتها Refinitiv حول تغير المناخ في البرازيل، أنه بالمقارنة بين درجات الحرارة وهطول الأمطار خلال فترة 30 عامًا من 1959-1988 مع فترة 1989-2018، يتضح أن المناخ في البرازيل أصبح في المتوسط أكثر رطوبةً ودفئًا.
أصبحت أحداث البرد القارس أقل شيوعًا ولكن الحرارة الشديدة أصبحت أكثر تواترًا، حيث كانت آخر موجة صقيع شديدة في البرازيل عام 1994، ووقتها أيضًا كان هناك مزيج مدمر من الجفاف والصقيع.
اقرأ أيضًا.. الجفاف يضرب الولايات المتحدة وأوروبا والصين ويلقي بثقله على سلاسل التوريد العالمية
تغير المناخ والقهوة
تستحوذ 5 دول تقريبًا على معظم الإنتاج العالمي من البن وعلى رأس هذه الدول الخمس “البرازيل”، التي تصدرت القائمة بإنتاج 3 ملايين و 164 الف و 100 طن من البن خلال عام 2018، تليها فيتنام في المركز الثاني بإجمالي مليون و 770 الف طن، ثم كولومبيا بـ840 الف طن، ثم إندونيسيا في المركز الرابع 654 الف و 120 طن، وأخيراً هندوراس والتي تنتج 462 الف طن من البن.
اللافت أن جميع هذه الدول تعاني من اضطرابات في إنتاج البن بسبب تغيرات المناخ، ما يؤكد أن محاصيل القهوة في خطر محدق.
تؤكد الدراسات أن التغيرات المناخية تهدد النوعين الأكثر انتشارًا في العالم من البن، وهما “أرابيكا” الذي يمثل 70% من انتاج القهوة العالمي ويزرع فى إثيوبيا والبرازيل ونيكاراجوا والمكسيك، بحجم إنتاج عالمي بلغ نحو 5,825,520 طن، و”روبوستا” الذي يمثل نحو 30% من الانتاج العالمي، ويزرع في البرازيل وفيتنام والهند وإندونيسيا بحجم إنتاج عالمي بلغ نحو 3,737,040 طن.
يؤكد الخبراء أن اختفاء البن أو ندرته هو أمر وارد الحدوث، في ظل التغيّرات المناخية القاسية التي يشهدها الكوكب، وهي تغييرات تؤثر بشدة على سلاسل الإمداد.
فالارتفاع التدريجي لدرجات الحرارة يمثل خطرًا كبيرًا على إنتاج البن، كما أن التقلب المتطرف لأحوال الطقس الذي يتسبب أحيانًا في انخفاض شديد في درجات الحرارة، يهدد بدوره عملية الإنتاج، وستزداد صعوبة زراعة حبوب القهوة الجيدة.
تشير دراسات إلى أنه بحلول عام 2050، سيكون حوالي نصف الأراضي المستخدمة لزراعة نباتات القهوة العالية الجودة غير صالحة للإنتاج.
اقرأ أيضًا.. تعرف على أكثر 10 دول بالعالم تضررًا من تغير المناخ “بينهم دولتان عربيتان”
أرابيكا وتغير المناخ
تتمتع حبوب أرابيكا وهي القهوة المفضلة لأكثر من 60% في المئة من محبي البن في العالم، بقدرة محدودة على التكيف مع تغير المناخ، ويعاني المزارعون بالفعل من آثار ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار أو عدم انتظامها.
تشير الدراسات أن نحو 80 بالمئة من الإنتاج العالمي تنتجه مزارع صغيرة، لا تتعدّى مساحتها الهكتارين في إفريقيا، وأمريكا اللاتينية وآسيا، وفي نطاق ضيق من الظروف، ما يعني أنها قد تنهار أمام ارتفاع درجات الحرارة، ولن يتمكن معظم منتجي البن في تلك الدول لن يستطيعوا الوقوف بوجه التغيرات القاسية، إذ لا يمتلكون الموارد الكافية.
هناك مناطق في إفريقيا، مشهورة بزراعة القهوة، تواجه أزمات في الإنتاج بسبب التغيرات المناخية، ما جعل من زراعة القهوة مهمة أصعب.
حيث شحت الأمطار في بعض المناطق الجبلية وهي ضرورية جداً للقهوة، كما أن فصل الجفاف مهم جداً أيضًا، وهو ضروري من أجل تجفيف الحبوب قبل إرسالها إلى المحامص ولا يجب أن يكون متقطعاً.
في بداية العام 2020 تساقطت كميات كبيرة على مناطق تعرف بزراعة القهوة في إفريقيا الغربية وذلك ألغى “التجفيف”، ما أطاح بمواسم كثيرة. وفي بيرو تبدو نبتات القهوة ضعيفة جداً بوجه التغيرات المناخية.
السبب الرئيس في الأزمة يكمن في الأمراض والآفات الأكثر شيوعًا التي تظهر مع ارتفاع درجات الحرارة، حيث دمرت العدوى الفطرية المعروفة باسم صدأ أوراق البن المزارع في أمريكا الوسطى والجنوبية.
رغم أن التغيرات المناخية تهدد محاصيل أرابيكا وروبوستا على حد سواء، إلا أن النوع الأول يواجه أزمة كبيرة بسبب ارتفاع درجات الحرارة، بينما الأخير يبدو أكثر مقاومة للمناخ، لأنه يحتاج في زراعته إلى الكثير من الأمطار، التي أصبحت في زيادة مطردة لمناطق زراعة البن، لكنه في نفس الوقت، لن يتمكن من الصمود في حال ارتفعت درجة الحرارة بدرجة كبيرة، وما قد ينتج عن ذلك من جفاف.
يبدو مستقبل زراعة البن صعبًا، إن لم يكن قاتمًا. لكن أحد الحلول الواعدة ينطوي على تطوير محاصيل بن جديدة أكثر مرونة، يمكنها تحمل درجات حرارة أعلى وقابلية على تحمل الأمطار، مع الحفاظ على سماتها الرئيسة، مثل الطعم والرائحة.
مصر تتأثر
أعلن حسن فوزي رئيس شعبة البن التابعة للغرفة التجارية في مصر، عن وجود “نقص كبير” في مخزون القهوة بالعالم، وكشفت عن أن الموجود من البن يكفي مدة “لا تتجاوز شهرا واحدا”.
أرجع فوزي، السبب في ذلك إلى موجة الصقيع التي حدثت في دولة البرازيل العام الماضي والجاري، وأتلفت أكثر من 25 بالمئة من المحصول، وتسببت في قلة المعروض.
أكد فوزي: “البرازيل هي الدولة الأولى والأكبر عالميا في إنتاج البن، ومع قلة المعروض سيحدث ارتفاع بالتبعية في الأسعار، بعد اللجوء لعدد من الدول الأخرى التي تقوم بإنتاجه”.
أشار إلى أن مصر “تستورد 100 بالمئة من المحصول، لعدم ملاءمة مناخها لإنتاجه، حيث يحتاج لدرجة حرارة مرتفعة ورطوبة عالية”.
أوضح المسؤول المصري: “ارتفاع سعر البن في مصر له عدة أسباب، من بينها نقص المحصول العالمي وتأخر خروج البضاعة الموجودة في الموانئ، وارتفاع أسعار الغرامات والأرضيات التي يتحملها المستوردون”.
في تصريحات خاصة لـ “أوزون”، أكد فوزي أن ما يتردد حول اختفاء البن من مصر غير دقيق، وأن مخزون شهر من القهوة يعتبر مخزون كافي، ويمكن أن يسد العجز نتيجة النقص العالمي.
تشير الأرقام الصادرة عن شعبة البن المصرية، إلى أن أسعار البن ارتفعت الضعف خلال النصف الثاني من العام الماضي، بعد ارتفاعها 8 مرات متتالية، وذلك بسبب تأثير الطقس على الإنتاج، وارتفاع تكلفة الشحن من ألفي دولار للحاوية إلى 10 آلاف دولار.
أردف فوزي: “من بين الأسباب التي جعلت هناك قلة في المعروض من البن في مصر، أزمة فيروس كورونا، واضطراب سلاسل التوريد العالمية، وغلق فيتنام للتصدير، حيث تعد هي الأخرى من أكبر دول العالم في إنتاج البن”.
في مصر، يعد “أرابيكا” هو النوع الأكثر شيوعًا، ومنه تنتشر أنواع القهوة المختلفة في البلاد، وبلغ حجم استهلاك المصريين من القهوة خلال العام المالي 2019/2020 نحو 38.82 ألف طن وذلك وفق احصائيات منظمة القهوة العالمية “ICO”.
الاحصائيات نفسها كشفت أيضًا أن المصريين ينفقون سنويًا أكثر من مليار دولار على القهوة.
وحول إمكانية ارتفاع أسعار البن في مصر مجددُا بسبب الأزمة العالمية يقول د. عبد الخالق عسر الخبير التجاري في تصريحات خاصة لـ “أوزون”، إن أسعار البن قد تشعد ارتفاعا خلال الفترة المقبلة قد يتراوح بين 10 إلى 20 بالمئة من الأسعار الموجودة الآن.