يؤثر تغير المناخ على الصحة العامة ويشكل أكبر تهديد يواجه البشرية في هذا الصدد، حيث بدأ العالم بالفعل اكتشاف الأضرار الصحية التي تسببها هذه الأزمة تباعًا.
لعل أبرز هذه المعالم في منطقة الشرق الأوسط، هو انتشار الأمراض المعدية مثل الكوليرا، بسبب الآثار الناجمة عن تغير المناخ، وهو ما كشفت عنه منظمة الصحة العالمية مؤخرًا عبر حالات تم رصدها في 8 دول بالمنطقة، من بينها الصومال.
تواجه الصومال حاليًا واحدة من أشد موجات الجفاف في تاريخها بسبب تغير المناخ، ما قد يؤدي إلى مجاعة وخسائر فادحة في الأرواح بسبب الجوع وسوء التغذية والمرض.
حاليًا، يتأثر ما يقرب من 8 ملايين شخص بموجات الجفاف المتكررة، ويفتقر حوالي 3.5 مليون شخص إلى القدرة الكافية على الوصول إلى المياه، ولا يزال 6 ملايين يعانون من نقص حاد في الغذاء-، حيث يعاني ما يقرب من 1.4 مليون طفل من سوء التغذية الحاد.
بالإضافة إلى ذلك، نزح حوالي 2.5 مليون بالفعل إلى مناطق أخرى للبحث عن الغذاء والماء والمأوى والرعاية الصحية وأي مساعدة متاحة.
يتسبب تغير المناخ في زيادة شدة وتواتر موجات الحر والجفاف، ويؤدي الجفاف بدوره إلى زيادة الأمراض المستوطنة، واعتبارًا من 31 أكتوبر 2022، تم تأكيد ما مجموعه 11332 حالة مشتبه بإصابتها بالكوليرا، و 15143 حالة حصبة، و 9663 حالة من أمراض الإسهال الحاد في المناطق المتضررة من الجفاف.
قال ممثل منظمة الصحة العالمية في الصومال، الدكتور مامونور رحمن مالك، “إننا نسابق الزمن لمحاولة منع تفشي الكوليرا أو الحصبة. لقد رأينا الموت والمرض ينتشران بكثافة خلال أزمات الغذاء الممتدة في الفترات الماضية، سنرى المزيد من الناس يموتون من الأمراض أكثر من الجوع وسوء التغذية مجتمعين إذا لم نتحرك الآن”.
وأضاف رحمن مالك تعليقًا على ما يحدث في بلاده وباقي دول شرق المتوسط: ” إن تكلفة تقاعسنا عن العمل تعني أن الأطفال والنساء وغيرهم من المستضعفين سيدفعون أرواحهم بينما نشهد المأساة بلا أمل ولا حول ولا قوة. كما رأينا خلال عمليات الاستجابة الجماعية للطوارئ الخاصة بـ COVID-19 ، يمكن أن يؤدي العمل المبكر وتقديم تدخلات عالية الجودة وقائمة على الأدلة إلى حماية الصحة والرفاهية ، حتى لو كان النظام الصحي هشًا”.
نفس المشاهد تقريبًا مع اختلاف طفيف، حدثت في أفغانستان وباكستان والسودان واليمن، حيث ظهرت آثار تغير المناخ على الصحة العامة وتسبب الطقس المتطرف في انتشار الأمراض.
اقرأ أيضًا.. التغيرات المناخية والصحة العامة.. 10 أمراض جسدية يسببها الاحتباس الحراري
كيف يؤثر تغير المناخ على الصحة العامة؟
يترك تغير المناخ تأثيراً على الصحة العامة والاقتصاد والأمن الكوني بشكل مباشر، ويحد من آمال الأجيال القادمة بحياة أفضل، ذلك أنه يقوض قدرة الأرض على انتاج الغذاء وتوفير المياه العذبة ويساهم في انتشار الأمراض.
يؤثر أيضًا تغير المناخ على الصحة العامة بطرق عديدة، منها التسبب في الوفاة والمرض نتيجة الظواهر الجوية المتطرفة التي تزداد تواترا، مثل موجات الحر والعواصف والفيضانات وتعطل النظم الغذائية، وزيادة الأمراض الحيوانية المنشأ والأمراض المنقولة بالأغذية والمياه والنواقل، ومشاكل الصحة النفسية.
تتسبب الآثار الناتجة عن تغير المناخ كالفيضانات والجفاف والتصحر وارتفاع درجات الحرارة، في نزوح السكان والمجتمعات الأصلية واللجوء الى مناطق أخرى تؤمن لهم البقاء والحصول على الغذاء والمياه وتحميهم من الأمراض.
تؤدي الزيادة في درجات الحرارة إلى موجات حر وجفاف أسوأ، من حيث الشدة أو التواتر. منذ الخمسينيات من القرن الماضي، أصبحت موجات الحر والجفاف أطول وأكثر تواتراً وسخونة.
وفق الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة الإصابة بالملاريا وحمى الوادي المتصدع وحمى الضنك والشيكونغونيا وغيرها من الأمراض.
كما تزيد درجات الحرارة العالية من معدل تطور الفيروسات والطفيليات في النواقل مثل الحشرات الناقلة للأمراض.
يسمح الاحترار في مرتفعات شرق إفريقيا للبعوض الحامل للملاريا بالبقاء على ارتفاعات أعلى.
تؤدي زيادة درجات الحرارة إلى تقصير فترة تطور النواقل وبالتالي زيادة عدد النواقل.
كما أن الزيادة في هطول الأمطار الغزيرة تزيد من أعداد ناقلات الأمراض، مما يوفر موائل مستقرة للتكاثر.
تتسبب الفيضانات أيضًا في تلوث إمدادات المياه العامة بمسببات الأمراض البرازية.
يؤثر تغير المناخ أيضًا على الأمراض التي تنقلها المياه مثل الكوليرا والتيفوئيد والشيغيلا والإشريكية القولونية وداء الأميبات والجيارديا والكريبتوسبوريديوم. في كينيا مثلًا، انتشرت الكوليرا في المرتفعات.
وبالإضافة إلى ذلك، يقوض تغير المناخ العديد من المحددات الاجتماعية للصحة الجيدة، مثل سبل العيش والمساواة وإتاحة الرعاية الصحية وهياكل الدعم الاجتماعي.
وتؤثر مخاطر تغير المناخ على الصحة العامة لأكثر الفئات ضعفا وحرمانا، بمن في ذلك النساء والأطفال والأقليات الإثنية والمجتمعات الفقيرة ولمهاجرون أو المشردون وكبار السن، الأفراد الذين يعانون من ظروف صحية كامنة.
ورغم أن تأثير تغير المناخ على الصحة العامة للانسان بشكل واضح، فإنه يظل من الصعب تقدير حجم وتأثير العديد من مخاطر تغير المناخ على الصحة على نحو دقيق.
ومع ذلك فإن أوجه التقدم العلمي تتيح لنا تدريجيا نسب الزيادة في معدلات الاعتلال والوفيات إلى الاحترار الناتج عن أنشطة بشرية، وتحديد المخاطر التي تنطوي عليها هذه التهديدات الصحية ونطاقها على نحو أدق.
وفي المديين القصير والمتوسط، ستتوقف آثار تغير المناخ على الصحة العامة أساسا على قابلية تأثر السكان وقدرتهم على التكيف مع المعدل الحالي لتغير المناخ، ومدى وسرعة التكيف.
وفي الأمد الأبعد، ستتوقف التأثيرات بشكل متزايد على اتخاذ إجراءات فورية قادرة على إحداث التحول للحد من الانبعاثات وتجنب تجاوز عتبات درجة الحرارة الخطيرة ونقاط حرجة محتملة لا سبيل إلى تداركها.
وقد خلصت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن تفادي الآثار الكارثية على الصحة ودرء حدوث ملايين الوفيات المرتبطة بتغير المناخ يقتضيان من العالم أن يحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى أقل من 1.5 درجة مئوية. ونتيجة الانبعاثات السابقة، بات ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى مستوى معين والتغيرات الأخرى التي طرأت على المناخ أمرا محتوما. غير أن الاحترار العالمي حتى بمقدار 1.5 درجة مئوية لا يعتبر آمنا؛ وكل عُشْر إضافي في درجة الاحترار الحراري سيلحق أضرارا خطيرة بحياة الناس وصحتهم.
اقرأ أيضًا.. خريطة كاملة لآثار تغير المناخ على قطاعات الغذاء والمياه والصحة في إفريقيا
الكوليرا وتغير المناخ
على جانب آخر، تتسبب آثار الطقس المتطرف الناجمة عن تغير المناخ مثل الفيضانات والأعاصير والجفاف، إلى تقليل فرص الحصول على المياه النظيفة وتهيئة بيئة مثالية لازدهار الكوليرا.
كشفت دراسة نشرتها جامعة ميريلاند الأمريكية في 2014 عن تأثير تغير المناخ على الصحة العامة أن المضيف الرئيسي لجرثوم ضمة الكوليرا، المسبب للمرض، وهو نوع من العوالق الحيوانية، المعروف باسم “مجدافيات الأرجل”، يزداد انتشارًا في المياه الأكثر دفئاً، خاصة تلك الغنية بالمغذيات.
توفر المياه الساخنة بيئة مناسبة لوفرة العوالق النباتية، ما يؤدي بدوره إلى وفرة العوالق الحيوانية، وخلال موسم الأمطار، تدفع الفيضانات البكتيريا المسببة للأمراض من أعلى النهر نحو التجمعات السكانية عالية الكثافة، وفق الدراسة.
قالت منظمة الصحة العالمية، خلال مؤتمر عقد الأحد بالقاهرة، إنه في أثناء الاستجابة لحالات الطوارئ المتعددة المتزامنة في إقليم شرق المتوسط ، في الوقت نفسه دعماً هائلاً وتقديم الدعم إلى 5 بلدان في الإقليم المتأثرة بتغير المناخ في عام 2022، وهي أفغانستان وباكستان والصومال والسودان واليمن، لاحظت أن المخاطر البيئية والمناخية مسؤولة عن حوالي 23٪ من العبء الإجمالي للمرض في الإقليم.
وقالت المنظمة العالمية إن “الروابط بين تغير المناخ والظواهر الجوية الشديدة والصحة تتجلى بشكل متزايد، بما في ذلك الجفاف والفيضانات”.
قال الدكتور أحمد المنظري، مدير منطقة شرق المتوسط بمنظمة الصحة العالمية خلال زيارة قام بها مؤخرا للسودان إن البلاد واحدة من الدول السبع في القرن الأفريقي الكبير- إلى جانب جيبوتي وإثيوبيا وكينيا والصومال وجنوب السودان وأوغندا- المتضررة من انعدام الأمن الغذائي الحاد بسبب الجفاف، وهو حدث مناخي له عواقب وخيمة على الصحة العامة، وتسبب في انتشار أمراض مثل الكوليرا.
من جانبها قالت الدكتورة رنا الحجة، مديرة إدارة البرامج بالمكتب الإقليمي لشرق المتوسط، إن تغير المناخ يعتبر من الأزمات الأساسية التي نحاول نتعامل معها، حيث أبلغت بعض البلدان عن تفشى الكوليرا داخلها نتيجة ضعف النظم الصحية.
أضافت: “هناك 8 دول تعانى من وباء الكوليرا في إقليم شرق المتوسط بسبب تغير المناخ، وأصبحنا نناقش علاقة وتأثير تغير المناخ على الصحة العامة فى جميع المؤتمرات”.