فازت الأرجنتين ببطولة كأس العالم 2022 بعدما تغلبت بضربات الترجيح على فرنسا في المباراة النهائية، لتسدل الستار على واحدة من أهم وأغلى البطولات في تاريخ المونديال، وأكثرها انبعاثات كربونية أيضًا.
قبل أعوام من المونديال التاريخي، تعهدت قطر بأن مونديال كأس العالم 2022 سيكون أول بطولة محايدة كربونيًا،
كما تعهد الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، بجعل بطولاته محايدة للكربون منذ عام 2006 على الأقل، عندما استضافت ألمانيا كأس العالم، بيد أن النتائج والأرقام النهائية تلقي بظلال من الشكوك حيال تعهدات قطر ومن خلفها الفيفا.
وجدت تقييمات خارجية مستقلة، صادرة عن Carbon Market Watch، وهي مؤسسة غير هادفة للربح تتمتع بخبرة فريدة في مراقبة أسواق الكربون في العالم، أن قطر لم توازن انبعاثاتها الكربونية الصادرة عن بناء ملاعب جديدة، وسفر مليون شخص من جميع أنحاء العالم لحضور 64 مباراة، مما يضرب بتعهدات الحياد الكربوني للمونديال عرض الحائط.
في أغسطس، نشر المنظمون القطريون تقريرا من 60 صفحة تقريبا يسلط الضوء على تدابير الاستدامة التي سيتبعها الفيفا لتقليل وتعويض جميع انبعاثات غازات الدفيئة المرتبطة بحدث رياضي دولي ضخم.
ولكن في أكتوبر، أصدرت منظمة Carbon Market Watch غير الربحية تقريرا يقيم استراتيجية الفيفا المناخية لكأس العالم، ووجدت أنها قللت من شأن الآثار البيئية واستخدمت تكتيكات مشكوك فيها لتعويض الانبعاثات التي أخذتها في الحسبان في هذا المجال.
الآن، ومع نهاية هذه النسخة من البطولة الكروية الأهم في العالم، يبدو أن الفيفا ومعه قطر، قد تراجعا بهدوء عن هذا الهدف.
كان الموقع الإلكتروني الذي يحدد التعهد المحايد للكربون غير متصل بالإنترنت اعتبارا من 8 ديسمبر، لكن نسخة مؤرشفة تظهر أن المنظمين كانوا حريصين على استغلال هذه النقطة لتسويق البطولة، التي بلغت تكلفتها أكثر من 200 مليار دولار.
تقول الصفحة المؤرشفة: “عندما منحت قطر حق تنظيم أول كأس عالم لكرة القدم في الشرق الأوسط والعالم العربي، لم تلتزم فقط بتنظيم بطولة مذهلة، ولكن التزمت أيضا بتنظيم هذا الحدث الضخم بطريقة مستدامة”.
قال جيل دوفراسن، رئيس مؤسسة أسواق الكربون العالمية: “لقد كان من الخطأ أنهم حاولوا جعل هذه استراتيجية إعلانية، الحد من التأثيرات المناخية لأي حدث دولي كبير تحديا هائلا، ومن المؤكد أن حدث رياضي بهذا الحجم والأهمية سيدعو إلى مزيد من التدقيق، ولن يمكن إخفاء الحقائق”.
يعتبر البعض أن التعهدات، التي لم يتم الالتزام بها في نسخة قطر لكأس العالم، مجرد “غسيل أخضر”، ونوع من التسويق البيئي للبطولات الرياضية.
كأس العالم في قطر ليس السابقة الأولى في هذا الصدد، فالعديد من الأحداث الرياضية تدعي أنها تتعامل مع انبعاثاتها على الورق فقط، دون تنفيذ على أرض الواقع.
ادعت بطولة Pac-12 لكرة القدم في وقت سابق من هذا الشهر أنها محايدة للكربون. وكذلك فعلت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في وقت سابق من هذا العام.
يقول اتحاد كرة القدم الأمريكي إن كل بطولة من بطولات Super Bowl منذ عام 2005 قد وازنت انبعاثات الكربون.
تحت الفحص الدقيق، تتكشف حقيقة العديد من هذه الادعاءات ويظهر كذبها، حيث يعتمد معظمهم على التكتيك المشكوك فيه المتمثل في شراء تعويضات الكربون بدلا من تقليل الانبعاثات بشكل عام، وغالبا ما ينتقد النشطاء البيئيون هذا النهج باعتباره غسلا أخضر.
اقرأ أيضًا.. تغيرات المناخ.. كلمة السر في تأجيل بطولة افريقيا بـ الكاميرون لمدة 6 أشهر
كأس العالم في قطر يهزم المناخ
كانت استضافة بطولة كرة قدم في قطر، وهي دولة صحراوية صغيرة، تمثل تحديا كبيرًا للمناخ، وثبت لدى العديد من الخبراء، أن الحد من البصمة البيئية الحالية لكأس العالم يمثل تحديا خاصا نظرا لوجود القليل من البنية التحتية.
الفترات التي سبقت كأس العالم 2022 شابها جدل في كل مرحلة: مزاعم الرشوة، وانتهاكات حقوق الإنسان أثناء بناء الملاعب، وتغيير توقيت البطولة من الصيف إلى الشتاء من أجل تجنب حرارة الصيف الحارقة في قطر.
تطلب التحضير للبطولة بناء ستة ملاعب جديدة ومنشأة مؤقتة واحدة.
قال المنظمون إن إحدى الطرق الرئيسية لتقليل الانبعاثات هي أن الملاعب تقع على بعد 30 ميلا من العاصمة الدوحة، مما يحد من الحاجة إلى السفر بين المباريات، ويقلل انبعاثات النقل.
كما أن الاستادات نفسها تقوم على أحدث أنظمة الإضاءة والتبريد الموفرة للطاقة، ما يعني انبعاثات أقل، وفق الادعاءات القطرية.
لكن ما حدث على الأرض أن معظم المواد اللازمة لبناء الاستادات تم استيرادها من الخارج، مما زاد من البصمة الكربونية.
كما أقيمت مباريات كأس العالم على العشب أيضًا، والذي بدوره يتطلب أكثر من 2000 جالون من الماء يوميا للحفاظ على الخضرة.
تعتبر المياه سلعة ثمينة بشكل خاص في بلد صحراوي، ويأتي الكثير من المياه العذبة في قطر من مياه البحر المحلاة، وهي عملية تتطلب الكثير من الوقود الأحفوري.
كما أن المنظمين قللوا بشكل كبير من تقدير غازات الدفيئة المرتبطة بجميع أعمال البناء الجديدة من خلال حساب استخدامها فقط على مدار البطولة التي استمرت لمدة شهر بدلا من عمرها الفعلي.
كما فشلوا في حساب جميع الانبعاثات المرتبطة بالأشياء اللازمة لاستضافة المشجعين من جميع أنحاء العالم، مثل الفنادق والنقل.
حضر أكثر من مليون مشجع إلى العاصمة القطرية الدوحة بالطائرات من جميع أنحاء العالم، وهي وسيلة نقل كثيفة الانبعاثات ومضرة بالمناخ.
خطة قطر لتعويض انبعاثات كأس العالم كانت دعائية لحد كبير، وما يؤكد ذلك، أن المنظمون قرروا التعويض عن الانبعاثات التي لا مفر منها، بشراء تعويضات الكربون، وهنا كارثة أخرى.
سيتطلب تعويض إجمالي انبعاثات البطولة، شراء ما يقرب من 3.6 مليون من أرصدة الكربون، واتفق المنظمون على شراء نصف هذه الكمية من مجموعة تسمى مجلس الكربون العالمي.
“رصيد الكربون”، هو تصريح يسمح للشركة أو الدولة التي تشتريه، بإصدار كمية معينة من ثاني أكسيد الكربون أو غازات الدفيئة الأخرى. ويعاد استغلال قيمة رصيد الكربون المباع في مشاريع تعزز الطاقة المتجددة أو تسحب نفس الكمية من انبعاث الكربون الذي ستصدره الشركة أو الدولة التي قامت بشراء الرصيد.
حتى الآن، ووفق إفصاحاتهم الرسمية، اشترت قطر أقل من 350,000 من أرصدة الكربون، أي أقل من 10 % من إجمالي الانبعاثات.
الأزمة هنا، وفق الخبير إيان وارد، أن مؤسسة مجلس الكربون العالمي ليست في الواقع مؤسسة دولية، ومقرها يقع في قطر وترتبط بالكيانات المملوكة للدولة القطرية، ما يثير الشكوك والريبة حول مصداقية الأرقام والوعود برمتها.
ثال دوفراسن: “من الصعب التحقق من نظام ائتمان الكربون الداخلي في قطر، ما يعني أنه من الصعب أن تفي قطر بوعودها أو تحقق نتائج فعلية، بل على العكس، قد تكزن الحقائق كارثية، لذا فإن الادعاء بأن البطولة محايدة للكربون لا معنى له”.
اقرأ أيضًا.. كرة القدم وتغير المناخ.. الرياضة الأشهر بالتاريخ يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في مواجهة الأزمة
كأس عالم أخضر
مع استمرار ارتفاع متوسط درجات الحرارة في جميع أنحاء العالم، يجدر بنا أن نسأل عن الخطوات التي يمكن أن تقلل بشكل حقيقي من تأثير تغير المناخ من الرياضة.
يجب أولا أن يتمكن المنظمون لأي بطولة رياضية من معرفة كيفية الحد بشكل كبير من انبعاثات غازات الدفيئة من السفر والبناء والاحتفالات.
مفتاح الاستراتيجية، وفق الخبراء، هو أخذ تغير المناخ في الاعتبار منذ البداية بدلا من تصويره كمشكلة يجب معالجتها في النهاية.
يمكن أن نحقق ذلك من اختيار مكان إقامة البطولات، واختيار المواقع التي لديها بالفعل مرافق وذات موقع مركزي أكثر، مما يقلل من الانبعاثات المرتبطة بالبناء والسفر.
وهذا يتعارض مع الجوهر القائل بأن استضافة أحداث مثل الألعاب الأولمبية توفر للبلدان فرصة للاستثمار في البنية التحتية وتعزيز اقتصاداتها.
لكن تجربة العالم الحقيقي في أماكن مثل البرازيل التي استضافت الألعاب الأولمبية وكأس العالم، وقريبا قطر، تُظهر أن العديد من المرافق تُركت دون استخدام بعد الحدث.
ينتهي الأمر بالعديد من المدن والبلدان بخسارة الأموال في استضافة هذه البطولات ما لم يكن لديهم بالفعل الملاعب والمساكن والفنادق والحافلات والقطارات.
كما يجب أن يركز الحد من التأثير المناخي للرياضة في المقام الأول على الحد من الانبعاثات.
لا يوجد بديل لمنع ثاني أكسيد الكربون من دخول الهواء في المقام الأول.
يجب أن تكون التعويضات جزءا هامشيا فقط من استراتيجية المناخ لبطولات مثل الألعاب الأولمبية أو كأس العالم، إن وجدت.
كما يعد السفر، ليس فقط من قبل الرياضيين ولكن أيضا من قبل المشجعين، أحد أكبر مصادر انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من الرياضة، لذا فهذه فرصة رئيسية.
رغم كل ذلك، فإن مشهد الرياضة نفسه قد يحقق أكبر الفوائد للمناخ.
مع وجود الملايين من الناس يشاهدون المباريات، يمكن للجهود المبذولة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أن ترفع الوعي بجميع التكتيكات الموجودة وتسلط الضوء على الفوائد الملموسة للأفراد من تقليل الانبعاثات.
يمكن للرياضيين أنفسهم أيضًا أن يكونوا رُسُلًا للقضية، ويصلون إلى الجماهير التي قد لا تتقبل بطريقة أخرى اجراءات التخفيف من تغير المناخ.
في النهاية، بالنسبة لكأس العالم، ستستضيف بطولة 2026 48 فريقًا بدلاً من 32 فريقًا حاليًا وستقام في جميع أنحاء المكسيك والولايات المتحدة وكندا.
وهذا يعني أن البصمة المناخية يمكن أن تكون هائلة ما لم يبدأ المنظمون التخطيط الآن في السيطرة على انبعاثاتهم.
إنه تحد صعب، لكن الحد من ارتفاع درجات الحرارة سيساعد في إبقاء الملاعب خضراء والرياضة في متناول الناس في جميع أنحاء العالم.