في أحد أيام 1983، اتجه شاب أمريكي يُدعى «جاي فيسترفيلد» في رحلة بحثية نحو دولة ساموا بجنوب المحيط الهادئ، ومرّ في طريقه بجزيرة فيجي، التي تبعد عن ساموا 1140 كيلو متر تقريبًا، وتوقف بها لركوب الأمواج.
كان وقتًا مثاليًا للترفيه قبل استكمال رحلته، وبعد قضاء أوقات لطيفة فوق الأمواج، ذهب لحمام الفندق الذي كان يقيم فيه، بحثًا عن منشفة، لكنه اصطدم بلافته صغيرة تدعو فيها إدارة الفندق الزوار؛ لإعادة استخدام المناشف من أجل تخفيف الضرر البيئي الناتج عن غسيلها، والذي يمتد أثره للكائنات البحرية المحيطة بالجزيرة.
أثارت الورقة سخرية فيسترفيلد؛ الباحث والناشط البيئي، ببساطة لأنّ إعادة استخدام المناشف، تعني تقليل الغسيل وبالتالي توفير الأموال، ثم ضخها في بناء أكواخ سياحية على بُعد أمتار من الشعاب المرجانية.
بعد 3 سنوات تقريبًا، عام 1986، صاغ فيسترفيلد مصطلح الغسيل الأخضر أو (Greenwashing)، في أحد مقالاته، إشارة إلى الكيانات التي تُظهر دعمها للبيئة، لكنها في الكواليس تُتلف مساحات خضراء كبيرة. أو بعبارة أخرى، ترويج المنظمات بأنها صديقة للبيئة من أجل تحقيق المصالح الخاصة.
وهو مصطلح مشتق من «الغسيل الأبيض» (Whitewashing)، والذي يعرفه قاموس جامعة كامبريدج على أنه: “منع الناس من اكتشاف الحقائق خلف المواقف الظاهرة”.
اقرأ أيضًا.. ما معنى قرار الأمم المتحدة الجديد بالاستعانة بـ العدل الدولية للبت في التزامات الدول المناخية؟
كوكاكولا: أكبر ملوث للبلاستيك في العالم
في نهاية شهر سبتمبر 2022، أعلنت الأمم المتحدة أنّ شركة كوكاكولا راعية لمؤتمر الأطراف السابع والعشرين (COP27)، الذي عقد في مدينة شرم الشيخ بمصر، ما أثار سخط النشطاء البيئيين، وطالبوا بسحب البساط من تحت أكبر شركة منتجة للمشروبات الغازية في العالم.
علق أحمد الدروبي، مدير الحملات في منظمة غرينبيس للمنطقة العربية، قائلًا لـ”أوزون” عبر الهاتف: “إنّ هذا يرمز إلى المشكلات الجذرية الموجودة في نظام الاتفاقية الإطارية، الذي يحمل دول فقيرة تكلفة عالية في تنظيم المؤتمر، ما يجعل اختيارات هذه الدول محدودًا”، مشيرًا إلى أنّ الرعاة من الشركات متعددة الجنسيات لديهم التمويل الكافي لتنظيم مؤتمر بهذا الحجم، وفي كثير من الأحيان، تكون هذه الشركات ملوثة للبيئة. ويُضيف: “هذا يسمح لتلك الشركات بتحسين صورتهم عبر وسائل الإعلام”.
والجدير بالذكر أنّ كوكاكولا متفوقة في إنتاج مخلفات بلاستيكية مصنوعة من الوقود الأحفوري، وتُستخدم لمرة واحدة، ما يسبب خسائر فادحة للنظام البيئي. وقد وصفها تقرير تدقيق العلامات التجارية الصادر عن حركة «تحرر من البلاستيك» (Break Free From Plastic) في عام 2021 بأنها «أكبر ملوث للبلاستيك في العالم»، وهذه ليست المرة الأولى التي تحصد فيها كوكاكولا هذا اللقب. وأشار الدروبي إلى أنّ كوكاكولا كانت قد وعدت بتقليل استهلاكها للبلاستيك في تسعينيات القرن الماضي، ولكنها لم تفِ بوعدها.
ليست كوكاكولا وحدها!
في يوم 10 أبريل / نيسان 2018، أعلنت شركة «نستله» (Nestlé) العالمية عن طموحها لجعل عبوات منتجاتها قابلة للتدوير بنسبة 100% بحلول عام 2025. في نفس اليوم، علقت «غرينبيس» (Greenpeace)، بأنّ بيان شركة نستله كان غامضًا ولا يوجد جدول زمني أو معايير قوية تليق بمثل هذه الشركة العملاقة. وفي عام 2019، أطلقت شركة «ماكدونالدز» (McDonald’s) حملة بأنها ستستخدم القش الورقي القابل لإعادة التدوير بدلًا من القش البلاستيكي؛ لتظهر وكأنها صديقة للبيئة، لكن اتضح أنّ هذا القش الورقي غير قابل لإعادة التدوير.
وفي أبريل 2021، تعهدت شركة «ستاربكس» (Starbucks) بتقديم مشروبات خالية من الألبان طوال أبريل واستخدام بدائل؛ احتفالًا بشهر الأرض، إذ تشكل ألبان الأبقار أكبر مصدر لانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، في محاولة للظهور على أنها شركة صديقة للبيئة، لكنها نالت انتقادات عديدة، لأنها لم تقلل من تكلفة المنتج. على حد وصف فيسترفيلد الساخر، فإنّ مثل هذه الشركات كأنها تصيح قائلة: «ساعدنا في مساعدة بيئتنا».
السم في العسل
تتخذ العديد من الشركات فكرة صداقة البيئة ستارًا لتحقيق مكاسب من ورائها وخلق سمعة جيدة، حتى وإن كان الثمن هو تضليل العملاء والإضرار بالبيئة، والأدهى أنهم يجعلون المستهلكون شركاء لهم في الإضرار بالبيئة عندما يشترون منتجات تلك الشركات ويتخلصون من نفاياتها غير القابلة لإعادة التدوير أو لديها دور ما في انبعاثات الغازات الدفيئة؛ فمن الطبيعي أن يُقبل المستهلك نحو الشركات المدعمة للبيئة، وهي في الحقيقة بعيدة تمامًا عن صداقة البيئة.
اقرأ أيضًا.. تحت شعار انتحار المنطق.. منظمات بيئية تهاجم رعاية شركة كوكاكولا لـCop27
كيف تكشف الغسيل الأخضر؟
حسنًا، ربما يكون المشترك بين أغلب المنظمات التي تتبع سياسة الغسيل الأخضر هو أنهم يقدمون وعودًا غامضة. تمامًا كما فعلت نستله من قبل ولم تفي بوعدها، ربما كان هذا الإعلان جزءًا من إحدى حملاتها التسويقية لتزيد أرباحها كما تفعل الشركات الأخرى، وتختلف طريقة كل شركة، كالتالي:
إبراز المميزات
هناك من يتعمدون إبراز بعض المميزات الصديقة للبيئة فعلًا، وتجاهل ما خلف الستار، مثل الشركات التي تثني على سياراتها الصديقة للبيئة، لكن عملية تصنيع نفس السيارة تسبب ضررًا للبيئة.
إخفاء الأدلة
بعض الشركات تقدم منتجات زاعمة أنها صديقة للبيئة، مثل المصنوعة من المواد العضوية، ولكنها لا تُفصح عن أدلة اتباعها هذا النهج فعلًا. أو تلك الشركات التي ترفع شعار «مصنوع من مواد طبيعية»، لكنها لا تُظهر شهادات تُثبت أنّ المنتج معتمد من جهة متخصصة، مثلًا، قد تجد كلمات كـ«منتج نباتي مُعتمد»، بدلًا من «منتج معتمد من وزارة الزراعة».
ادعاءات غير منطقية
عندما يدخل المستهلك إلى أي محل بقالة، ويشتري منتجًا مكتوبًا عليه أنّ أكياسه قابلة لإعادة التدوير، غالبًا ما سيُفضل المنتجات صديقة البيئة، فوفقًا لتقرير صادر عن (Unilever)؛ هناك 33% من المستهلكين لديهم استعداد لإنفاق المزيد من الأموال من أجل السلع الصديقة للبيئة. (أو التي تقول أنها صديقة للبيئة)
قول لا فعل
تُقدم العديد من الشركات الوعود أو النوايا باتخاذها لإجراءات بيئية وتضع أهدافًا بعيدة المدى مثل الشركات التي تعد بخفض انبعاثاتها بحلول سنة 2100 أو 2150، والتي غالبًا لن يشهدها قارئ هذا التقرير.
زي صداقة البيئة لا يليق
يقول الدروبي لـ”أوزون”: “كان هناك أكبر العاملين في الوقود الأحفوري في COP27 هذا العام، وأتوا رسميًا كشركات أو وفود ضخمة، وروجوا لحلول كاذبة كثيرة، ليس لها جدوى اقتصادية، بالإضافة إلى تكنولوجية غير صديقة للبيئة والمناخ”.
على الرغم من أنّ «أنطونيو غوتيريش»، الأمين العام للأمم المتحدة، قال في أثناء خطابه في مؤتمر الأطراف COP27: “يجب ألا نتسامح مطلقًا مع ظاهرة الغسل الأخضر صافي الصفري”.
في كل هذه الحالات، هناك الغسيل الأخضر يختبئ تحت الطاولة، وقد لا يُدركه المستهلكون، ولكن هناك عيون الناشطين البيئيين والخبراء يرصدونه، وما إن يظهر للعلن، تكون سمعته قد سقطت بالنسبة لبعض المستهلكين؛ فكما نعلم، لا يهتم كل الناس بقضايا البيئة.
من ناحية أخرى، قد يكون المستهلك المهتم بالبيئة قاسيًا بعض الشيء، إذ يعتبر نفسه مشاركًا لهذه الشركة في الغسيل الأخضر، ينقطع تمامًا عن منتجاتها، ويقل ولاءه لها، ويذهب للبحث عن شركة جديدة تُنتج منتجًا مشابهًا، وقد يكون منافسًا. وهكذا تخسر الشركة سمعتها وعملاءها.
اقرأ أيضًا.. بـ لغة بسيطة.. أهم 9 نقاط في تقرير IPCC الآخير عن تغير المناخ ومستقبل الأرض
هل هناك حل؟
يصعب على المواطن غير المتخصص إدراك ما إذا كانت الشركة التي يتعامل معها صديقة للبيئة أم لا، لكن ربما يستطيع فهم ذلك عبر ملاحظة منتجاتها مراحل التصنيع. من ناحية أخرى، هناك العديد من المنظمات النشيطة في مجال البيئة، تسعى لمحاربة الغسيل الأخضر.
في أثناء COP27، زارت أوزون وفد «المنظمة الدولية للمعايير» (ISO)، وتحدثت إلى «سيلفيو دولينسكي»، نائب الأمين العام للمنظمة، الذي بدوره شرح اهتمامات المنظمة بوضع معايير خاصة بالتغير المناخي، ويقول لـ“أوزون”: “تُساهم منظمة الآيزو في وضع مواصفات ومعايير مقبولة عالميًا وتعريفات خاصة بصافي الصفر، وحالات الطوارئ المناخية، وكيف يمكن قياسها والإبلاغ عنها، ويتم التحقق منها بوضوح من قبل المساهمين والمراجعين والمجتمع والمستهلكين والمنظمين”.
وعندما سألناه عن الغسيل الأخضر، رد قائلًا لـ“أوزون”: “حسنًا، عندما يتعلق الأمر بـ الغسيل الأخضر؛ فهناك العديد من الالتزامات للمنظمات فيما يتعلق بالاستدامة، وتضع الآيزو العديد من المعايير الواضحة. ومن ثمّ يمكن للجهات التنظيمية في البلاد الأخرى أن تتخذ هذه المعايير كمرجعية، لدينا فرع في مصر أيضًا «الهيئة المصرية العامة للمواصفات والجودة» (EOS)، ومراكز أخرى، وهي معتمدة دوليًا”. ويُشير دولينسكي إلى أنّ المنظمة لها نحو 166 عضوًا حول العالم، يعملون على تطوير معايير متوافقة، يمكن التحقق منها، ويتابعها مدققون.
على الرغم من أنّ «السياسة البيئية» لشركة كوكاكولا تعد بأنها ستدير أعمالها بطرائق مناسبة، تحمي البيئة وتحافظ عليها وتقلل بصمتها الكربونية، إلا أنها حصلت على لقب أكبر ملوث للبلاستيك في العالم لأكثر من مرة. والأدهى أنها كانت أحد الرعاة الأساسيين لمؤتمر الأطراف – COP 27، الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، ومن جانبه، يُشير الدروبي إلى أنّ تمويل تنظيم المؤتمر ليس دور الأمم المتحدة.