يدرس علماء معهد علوم الأرض في جامعة هايدلبرغ الألمانية تقلبات المناخ الطبيعي والغطاء النباتي على مدار ال 500000 عام الماضية بهدف التنبؤ بعواقب تغير المناخ من صنع الإنسان على النظم البيئية المتوسطية، وكان تركيزهم الأساسي على آثار هذه التقلبات على منطقة غابات البحر الأبيض المتوسط.
تحقيقا لهذه الغاية، قام الباحثون بقيادة الدكتور أندرياس كوتسودندريس بتحليل حبوب اللقاح الأحفورية المحفوظة في قلب الرواسب باليونان.
وتشير تحقيقاتهم إلى أنه في ظروف الجفاف طويلة الأمد- كما تتنبأ أحدث النماذج المناخية- من المرجح أن يحدث تصحر في الغابات في منطقة البحر الأبيض المتوسط في المستقبل القريب.
غابات البحر الأبيض المتوسط والغابات هي منطقة بيئية، من غابات متوسطية، وحيوم المناطق الأحيائية، في السهول الساحلية والتلال والجبال المطلة على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي في شمال إفريقيا.
تضمُّ منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط 26 دولة تغطي نحو 6.7% من إجمالي مساحة يابسة العالم، ومن هذه المساحة يوجد ما يعادل 115 مليون هكتار من الغابات، أي ما يعادل 13% من إجمالي مساحة هذه الدول، ونحو 3% من إجمالي مساحة غابات العالم.
بجانب كونها بؤرا ساخنة للتنوع البيولوجي، توفر غابات البحر الأبيض المتوسط خدمات النظم الإيكولوجية الحيوية، فهي تحمي من تآكل التربة، وتنظم المناخ الإقليمي والظروف الهيدرولوجية، وتوفر الغذاء والأخشاب.
اقرأ أيضًا.. خريطة كاملة لآثار تغير المناخ على قطاعات الغذاء والمياه والصحة في إفريقيا
غابات البحر الأبيض المتوسط والتصحر
يوضح الدكتور كوتسودندريس أحد أعضاء الفريق البحثي: “نظرا لأنها حساسة بشكل استثنائي لتغير المناخ، فإن القلق على بقائها يتزايد في ضوء انبعاثات ثاني أكسيد الكربون CO2 البشرية المنشأ والاحترار العالمي المرتبط بها”.
لتتبع كيفية تفاعل غابات البحر الأبيض المتوسط مع التغيرات المناخية في الماضي، أخذ باحثو هايدلبرغ، بالتعاون مع باحثين من فرنسا وألمانيا واليونان والمملكة المتحدة، عينات حفر من Tenaghi Philippon، وهو أرشيف مناخي أرضي في شمال شرق اليونان يوفر سجلاً كاملاً عن الـ 500000 عام الماضية، ويحفظ داخله حبوب اللقاح الأحفورية.
ارتبطت البيانات المتعلقة بتطور الغطاء النباتي في هذه الفترة المكتسبة من حبوب اللقاح بالبيانات الجيوكيميائية حول التقلبات المعاصرة في هطول الأمطار.
تظهر نتائج الفريق بقيادة الدكتور كوتسودندريس أنه في الماضي، تحولت غابات البحر الأبيض المتوسط إلى سهوب في غضون بضعة عقود بمجرد تجاوز عتبات هطول الأمطار المحددة.
السهوب هي منطقة أحيائية، أي أنها منطقة محددة مناخيا وجغرافيا، تتميز بوجود سهول المراعي وعدم وجود أشجار فيما عدا تلك القريبة من الأنهار والبحيرات.
باستخدام النماذج البيئية، فحص العلماء أيضا العوامل المحتملة التي تسببت في تغيير أنماط هطول الأمطار.
تظهر تحليلاتهم أن التغيرات في تركيزات ثاني أكسيد الكربون CO2 في الغلاف الجوي تؤثر على كمية هطول الأمطار في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
يقول كوتسودندريس: “في الماضي، كان انخفاض هطول الأمطار بنسبة 40 إلى 45 في المائة كافيا لإحداث تحول مفاجئ من الغابات إلى المناطق الأحيائية السهوب في ظل الظروف الطبيعية”.
ويضيف: “تشير هذه النتائج إلى أن مثل هذا التحول يمكن أن ينتظر غابات منطقة البحر الأبيض المتوسط في المستقبل القريب إذا لم يتم فعل أي شيء لحمايتها”.
اقرأ أيضًا.. كل ما تحتاج معرفته عن إزالة الغابات وخطورتها على المناخ والغذاء والأنواع
تقرير الفاو
تتكامل نتائج التحقيق الذي أجراه باحثي جامعة هايدلبرغ مع تقرير صدر نوفمبر الماضي عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ومركز بلان بلو (Plan Bleu) حول حالة غابات البحر المتوسط.
قال تقرير الفاو إنه على الرغم من أن مساحة الغابات في منطقة البحر المتوسط ازدادت بنسبة 2 في المائة بين العامين 2010 و2015، لتصل إلى 1.8 مليون هكتار، إلا أن الغابات في منطقة البحر الأبيض المتوسط قد تأثرت بشكل كبير بالتدهور وأنها معرضة للخطر بشكل متزايد بسبب تغير المناخ وارتفاع عدد السكان وحرائق الغابات وشح المياه.
ينجم تدهور الغابات في شمال المتوسط غالباً عن هجر الأراضي وحرائقها، في حين تعاني الغابات في الجنوب الشرقي من الإفراط في استغلال خشب الوقود والرعي الجائر والضغط السكاني.
ويبقى تغير المناخ التهديد الرئيسي لجميع غابات البحر الأبيض المتوسط. وسيغير الارتفاع في درجات الحرارة وعدم انتظام هطول الأمطار وفترات الجفاف الطويلة من انتشار وتوزع الغابات والأشجار على مدار السنوات القادمة.
فعلى سبيل المثال، عندما تحاول الأشجار مقاومة الجفاف، فإنها تستنفد مخزونها من الكربون وتنتج كميات أقل من الكربوهيدرات والراتنجات التي تعتبر ضرورية لصحتها. وقد أدى هذا إلى تراجع أو سقام أشجار البلوط والشوح والتنوب والزان والصنوبر في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان، وأرزيات الأطلس في الجزائر.
تضاعف عدد سكان منطقة المتوسط بين الأعوام 1960 و2015، ليصل إلى 537 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 670 مليون بحلول العام 2050. وفي حين كان هناك تغير ديموغرافي طفيف في الشمال، أدى النمو السكاني السريع في الجنوب الشرقي إلى استغلال مفرط للموارد الطبيعية.
وما تزال حرائق الغابات تشكل تهديدًا كبيرًا. وعلى الرغم من تناقص عدد الحرائق في الشمال والشمال الشرقي في العقود الأخيرة، فقد ازداد عدد الحرائق الأكبر (التي تؤثر على أكثر من 500 هكتار). ويتنبأ التقرير باستمرار هذا الاتجاه، أي حرائق أقل عدداً ولكن أكبر حجماً.
يضر النقص في المياه وتعرية التربة بالغابات المتوسطية بشكل خاص، لأن تربتها أرق وأضعف من التربة في المناطق الأخرى.
وفي هذا الشأن، قال هيروتو ميتسوجي، المدير العام المساعد لقطاع الغابات في الفاو: “لطالما تكيفت الغابات المتوسطية مع الضغوطات التي سببها التطور البشري، ولكن، لم يسبق لهذه الضغوطات أبداً ان كانت أكثر شدة مما هي عليها الآن”.
أضاف: “ما لم نفعل المزيد لمكافحة تدهور الغابات، فإن أكثر من 500 مليون شخص في 31 بلداً وثلاث قارات سيواجهون قريباً مجموعة واسعة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية”.
ومن جهتها قالت إلين ليميتر كوري، مديرة مركز Plan Bleu: “في سياق من التغيرات المناخية والاجتماعية والحياتية السريعة في منطقة المتوسط، تعتبر حلول الغابات والأشجار حيوية للاستدامة الكلية للمنطقة، حيث يتوقع أن يمتد أثرها إلى أبعد من الغابات ذاتها”.
وأضافت: “يمكن للغابات والزراعة الحرجية والأشجار والحدائق الحضرية أن تساعد في المحافظة على الخدمات الرئيسية للنظام الإيكولوجي وتقليل تدهور التربة والانتقال إلى اقتصاد أخضر أكثر فعالية من حيث الموارد واقل بعثاً للكربون وأكثر انصافاً اجتماعياً ومستنداً إلى البيولوجيا. الوصول إلى هذا الأمر يحتاج إلى استخدام مجموعة من الأدوات، من بينها النُهج التشاركية والآليات الاقتصادية المبتكرة والشراكات”.
اقرأ أيضًا.. بسبب حرائق الغابات.. العالم يفقد أشجارًا بما يعادل مساحة البرتغال في 2021 فقط
غابات البحر الأبيض المتوسط في أرقام
تبلغ مساحة الغابات في البلدان المتوسطية حوالي 88 مليون هكتار، أي ما يعادل مساحة فرنسا وإيطاليا مجتمعين، وتمثل اثنين في المائة من مساحة الغابات العالمية.
تستضيف دول شمال أفريقيا أربعة في المائة من غابات البحر الأبيض المتوسط، ولكن الغابات تمثل ربع مناطقها المحمية تقريباً.
بشكل عام، كانت الخسارة الأكبر في مساحة الغابات كانت في البلدان الأوروبية (كانت أكبر خسارة في مساحة الغابات بين الأعوام 1990 و2015 في البرتغال والبوسنة والهرسك وألبانيا).
هناك 80 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة- بما في ذلك الغابات – في منطقة البحر المتوسط.
تخزن الغابات أكثر من 5000 مليار طن من الكربون (حوالي 2 في المائة من الكربون العالمي للغابات)، مع زيادة بلغت 1.65 مليار (2 في المائة سنويا) بين الأعوام 1990 و2015.
يحترق أكثر من 400,000 هكتار من الغابات كل عام، وما لا يقل عن 339 نوع (16 بالمائة) من أنواع الحيوانات والنباتات في الغابات المتوسطية مهددة بالانقراض.