تسببت الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا منذ أسبوعين في خروج القمح الروسي والأوكراني من الخدمة، ما زاد أزمة الأمن الغذائي العالمية تعقيدًا.
تعد روسيا وأوكرانيا من أكبر خمس دول مصدرة للقمح في العالم، ويمثلان معًا حوالي ربع التجارة العالمية في الحبوب الأساسية.
أسعار القمح العالمية ارتفعت خلال الأيام القليلة الأولى من الغزو، ورغم أنها انخفضت قليلًا فيما بعد، إلا أنها تظل في أعلى مستوى لها منذ 12 عام.
أوائل عام 2010، تسبب الطقس المتطرف في محطات القمح الضخمة في أستراليا والولايات المتحدة وروسيا، إلى جانب بعض العوامل الأخرى، في ارتفاع أسعار القمح، ما كان سببًا في اندلاع أعمال شغب في الشرق الأوسط، والتي مهدت فيما بعد لأحداث الربيع العربي.
الصدمات الجيوسياسية مثل هجوم روسيا على أوكرانيا جاءت لتضرب نظامًا غذائيًا عالميًا يتأرجح بالفعل بسبب تغير المناخ، وفقًا لأحدث تقرير صدر نهاية فبراير 2022 عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، وهي تجمع علمي تابع للأمم المتحدة يضم 270 باحثًا من 67 دولة.
أكد التقرير السابق للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، الصادر في أغسطس الماضي، أن متوسط درجات الحرارة العالمية قد ارتفع بمقدار 1.1 درجة مئوية منذ ما قبل الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وحذر من أنه بدون العمل على تخفيض فوري وسريع وواسع النطاق في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، سيكون من المستحيل تجنب موجات الحرارة المتطرفة التي سوف تؤثر على زراعة الطعام أو العمل في الأماكن المفتوحة.
يبحث التقرير الجديد في الكيفية التي يؤدي بها ارتفاع درجات الحرارة إلى تدمير النظم البيئية العالمية، بما في ذلك الأنظمة التي توفر الغذاء مثل الأراضي الزراعية والمحيطات.
كما أنه يأخذ في الاعتبار كيف يمكن للمجتمعات أن تتكيف لجعل إنتاج الغذاء أكثر مرونة في مناخنا الذي يتسم بالاحترار والفوضى المتزايدة.
تقول راشيل بيزنر، الأستاذة في قسم التنمية العالمية في جامعة كورنيل والمؤلف الرئيسي في فصل التقرير عن النظم الغذائية: “لا أحد بمنأى عن تأثيرات تغير المناخ”
وتضيف: “لكن الأشخاص الذين يعيشون في دول قريبة من خط الاستواء سيتحملون أسوأ الآثار والتبعات، هذا ظلم كبير، لأنهم ساهموا في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بدرجة أقل بكثير من نظرائهم في شمال الكرة الأرضية”.
اقرأ أيضًا.. القمح الأوكراني.. 4 دول عربية تواجه خطرًا كبيرًا بسبب الغزو الروسي
الأمن الغذائي وتغير المناخ.. الأراضي في خطر
أدت موجات الجفاف والفيضانات الأكثر شراسة في عدة دول إلى إحداث فوضى في مناطق زراعية ذات إنتاجية عالية.
يمتد الضرر إلى ما هو أبعد من تلف المحاصيل الناتج عن أحداث الطقس المتطرفة، حيث يساعد ارتفاع ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي على نمو المحاصيل بشكل أسرع، ويرفع محتواها من الكربوهيدرات ويقلل من مستويات الفيتامينات والمعادن الرئيسية فيها.
يذكر التقرير أن “هذا له أهمية خاصة بالنسبة لمحاصيل الفاكهة والخضروات نظرًا لأهميتها في تغذية الإنسان”.
والأسوأ من ذلك، أن الإجهاد الحراري المتزايد الناجم عن تغير المناخ يفوق تأثير النمو الأسرع.
وجد التقرير أن درجات الحرارة المرتفعة قد أدت بالفعل إلى خفض إنتاجية المحاصيل الثلاثة الرئيسة في العالم، الذرة والقمح والأرز، بنسبة 5.3 في المائة منذ عام 1961.
قدر العلماء أن إنتاجية هذه المحاصيل ستنخفض بنسبة 10 إلى 25 في المائة إضافية لكل درجة حرارة أعلى من 1.1، وهي الدرجة الحالية.
في دلتا النيل بمصر، حيث يتمركز أغلب النشاط الزراعي المحلي، يهدد ارتفاع مستوى سطح البحر الإنتاجية الزراعية المحلية، مع توقعات بأن تتوغل المياه عالية الملوحة في مساحات شاسعة من الدلتا، ما سيزيد من احتمال عدم قدرة الأراضي الزراعية القائمة على الإنتاج الزراعي في السنوات المقبلة، وذلك وفقاً لتقرير رسمي أصدرته وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية المصرية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان (مستقبل المحاصيل الزراعية في ظل التغيرات المناخية التي تشهدها مصر والعالم).
وقال التقرير الحكومي إن التأثيرات المرتقبة خطيرة، وسط درجات الحرارة المرتفعة حالياً ومستقبلاً في ظل تغير أنماط سقوط الأمطار، ما يبقي المحاصيل الزراعية الأساسية المصرية تحت رحمة التغيرات المناخية.
من المتوقع أن تتراجع إنتاجية معظم المحاصيل باستثناء محصول القطن الذي قد ترتفع إنتاجيته بنحو 30 في المئة بحلول عام 2100 تحت تأثير درجات الحرارة الآخذة في الارتفاع، ما سيطيل المواسم المناسبة لزراعته.
يتوقع التقرير انخفاض إنتاجية محصول القمح بنسبة لن تقل عن 15 في المئة بحلول عام 2050 مقارنةً بحجم الإنتاج الحالي، لافتاً إلى أن تلك النسبة قد تزيد إلى 36 في المئة بحلول عام 2100.
توقع التقرير أيضًا تقلص نسبة إنتاج الأرز بنحو 11 في المئة بعد مرور 28 عاماً، في الوقت الذي قد تتراجع فيه إنتاجية محصول الذرة بنسبة تتراوح بين 14 و20 في المئة بحلول عام 2050، ملمحاً إلى زيادة تلك النسبة إلى 20 في المئة بحلول عام 2100.
في غرب أفريقيا لا يختلف المشهد كثيرًا، حيث أدت درجات الحرارة الشديدة وسقوط الأمطار الناجمة عن الاحترار إلى خفض إنتاج حبوب الدخن والذرة الرفيعة، وهما من المواد الغذائية الأساسية في المنطقة، بنسبة 10 في المائة على الأقل و 5 في المائة على التوالي.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن ما يصل إلى 30 في المائة من المزارع والمراعي الحالية في العالم ستصبح غير مناسبة لإنتاج الغذاء بحلول نهاية القرن إذا لم تنخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الوقت المناسب، وفقًا للتقرير.
اقرأ أيضًا.. التغيرات المناخية في مصر.. محافظة بدلتا النيل تخسر 20% من أراضيها الزراعية
الأمن الغذائي وتغير المناخ.. البحر أيضًا في خطر
بالنسبة للمأكولات البحرية، وجد التقرير أنه بسبب ارتفاع درجة حرارة المحيطات، انخفضت “كمية الأسماك التي يمكن حصادها بشكل مستدام” من المحيطات بنسبة 4.1 في المائة بين عامي 1930 و 2010، وهو إطار زمني تضاعف فيه عدد السكان أكثر من ثلاثة مرات.
وكما هو الحال على اليابسة، تضغط موجات الحرارة الشديدة على النظم الإيكولوجية للمحيطات، وتسببت بالفعل في انهيار مصايد الأسماك الإقليمية.
وجد التقرير أن “هذه الأحداث قد تضاعفت على الأرجح من حيث معدل تكرارها بين عامي 1982 و 2016 وأصبحت أيضًا أكثر حدة وأطول وقتًا”.
من المتوقع أن يرتفع تواترها بمقدار أربعة أضعاف على الأقل خلال العقود القادمة، حتى لو خفضنا غازات الاحتباس الحراري قريبًا.
أما الشعاب المرجانية، تعاني بالفعل من حالة تدهور حاد بسبب الاحترار، وقد تنقرض تمامًا قريبًا وتصبح شيئًا من الماضي.
الشعاب المرجانية هي موطن لكثير من الأنواع، وغالبا ما تسمى “الغابات المطيرة في البحار”، ولها دور كبير في الحفاظ على البيئة البحرية والتنوع البيولوجي.
خلص التقرير إلى أن العديد من الأدلة تشير إلى أن غالبية الشعاب المرجانية الموجودة في المياه الدافئة (الاستوائية) الموجودة اليوم (70-90 في المائة) ستختفي، حتى لو تم السيطرة على ارتفاع درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية.
عند درجة حرارة تبلغ درجتين مئويتين، وهو سيناريو يزداد احتماله مع الوقت في ظل تقاعص الإجراءات العالمية بشأن خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ستموت جميع الشعاب المرجانية في العالم تقريبًا.
يعتمد حوالي 3 مليارات شخص على المأكولات البحرية كمصدر رئيس للبروتين.
يفحص تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أيضًا السؤال المهم حول أفضل السبل للاستجابة لهذه الأزمات، مؤكدًا أننا بحاجة إلى تحول كبير، لأن الاتجاه الذي كان سائدًا في القرن الماضي، بتخصيص مزارع كبيرة لزراعة محصول واحد أو اثنين فقط أو لتربية نوع واحد من الماشية، ترك إمداداتنا الغذائية عرضة لخطر الاحترار.
يقترح المؤلفون أن الحل يكمن في الانتقال إلى التنوع في زراعة المحاصيل بالتناوب، والجمع بين المحاصيل مع الثروة الحيوانية والغابات ومصايد الأسماك، على سبيل المثال، يمكن أن يجعل المزارع أكثر مرونة، ويساعدنا على التكيف مع أثار المناخ الأكثر حرارة.
لكن التكيف الأكثر أهمية على الإطلاق هو التوقف عن حرق الكثير من الوقود الأحفوري.
يقول بيزنر كير: “لكي نتجنب حقًا الخسائر المتزايدة في إنتاج الغذاء، نحتاج إلى إجراءات عاجلة لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري”.
ويضيف: “مع كل زيادة طفيفة في ارتفاع درجات الحرارة عن 1.5 درجة مئوية، سنواجه خطرًا أكبر بشكل ملحوظ وسنكون عرضة لتأثيرات شديدة.”