هيمنت قضايا المناخ على الصفحات الأولى بالصحف العالمية، وسط توقعات بدرجات حرارة قياسية في أوروبا هذا الأسبوع مما قد يؤدي إلى آلاف الوفيات بسبب موجات الحر التاريخية التي تشهدها القارة الباردة.
وصلت درجات الحرارة في بريطانيا إلى مستويات قياسية هذا الأسبوع، مما أدى إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد، بينما تزداد حرائق الغابات في فرنسا وإسبانيا والبرتغال واليونان.
أصدر مكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة أول تحذير أحمر على الإطلاق من درجات الحرارة الشديدة في إنجلترا، قبل يومين، مما يشير إلى وجود “خطر على الحياة”، مع احتمال ارتفاع درجات الحرارة إلى 43 درجة مئوية يوم الثلاثاء.
قد تصل أجزاء من ألمانيا أيضًا إلى 40 درجة مئوية بحلول منتصف الأسبوع، بينما ستعاني دول أوروبا الشرقية أكثر من غيرها يوم الخميس.
في الوقت نفسه، تجاوزت درجات الحرارة في فرنسا 40 درجة مئوية، وتتواصل سلسلة حرائق هائلة بالأقاليم الجنوبية الغربية من بينها إقليمي نوفيل-آكيتين وجيروند، حيث اجتاحت النيران أكثر من 10000 هكتار من الغابات، ما أدى إلى إجلاء أكثر من 12 ألف شخص حسبما أفادت السلطات الفرنسية، مع امتداد الحرائق إلى غابات أخرى بالقرب من مدينة بوردو، والتي أجبرت السكان وروّاد مواقع التخييم على مغادرة المنطقة.
في إسبانيا، أفاد التلفزيون الرسمي أن حرائق الغابات امتدت إلى 30 بؤرة نشطة في مناطق مختلفة من البلاد، وتسببت في تدمير أكثر من 14 ألف هكتار من الغابات والمحميات الطبيعية.
مع موجات الحر وحرائق الغابات التي تجتاح دول القارة، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إن البشرية على وشك ارتكاب “انتحار جماعي”.
ورغم أن موجات الحرارة القياسية في أوروبا وأمريكا تخضع لعدة عوامل بعضها يتعلق بدورة الغلاف الجوي والمحيطات، والتي تجعل أوروبا مركزا لموجات الحر، إلا أن العلماء أكدوا أيضًا أن الاحتباس الحرارى يلعب دورا، كما هو الحال في موجات الحرارة حول العالم، لأن درجات الحرارة في المتوسط أعلى نحو 1.1 درجة مئوية عما كانت عليه في أواخر القرن التاسع عشر، قبل انبعاثات الغازات.
اقرأ أيضًا.. دراسة: تغير المناخ يزيد من كارثية موجات الحر.. والقادم أسوأ إذا لم نتحرك
تغير المناخ
يلعب تغير المناخ وتراكم ثاني أكسيد الكربون من حرق الوقود الأحفوري دورًا هامًا في زيادة موجات الحر في أوروبا وأمريكا، ويزيد أيضًا من تواترها وشدتها بمعدل أسرع من أي مكان آخر في العالم، بما في ذلك غرب أمريكا.
قال نيكوس كريستيديس، عالم المناخ في مكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة: “قد تكون فرص وصول درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية في المملكة المتحدة أكثر احتمالًا في المناخ الحالي بعشرة أضعاف مقارنة بالمناخ الطبيعي غير المتأثر بالنشاط البشري”.
وأضاف أن تغير المناخ يقود موجات الحرارة بطريقتين، الأولى عن طريق حبس المزيد من الحرارة في النظام العالمي، فيؤدي الجو الأكثر دفئًا إلى المزيد من درجات الحرارة الشديدة.
أما التأثير الثاني فهو “ديناميكي”، ما يعني تغير كبير في أنماط الطقس، حيث تأتي الحرارة والأمطار إلى المناطق التي لا تعاني منها عادة.
في حالة أوروبا، جلبت منطقة الضغط العالي، بطيئة الحركة، الهواء الحار من شمال إفريقيا إلى دول القارة الباردة هذا العام.
ستصبح هذه الأنواع من موجات الحرارة أكثر تواترًا في العقود المقبلة، حتى لو أوفت الحكومات بتعهداتها بخفض الانبعاثات، وهو أمر مفروغ منه.
وقال كريستيديس: “حتى مع التعهدات الحالية بشأن خفض الانبعاثات، يمكن أن تحدث مثل هذه الحالات المتطرفة كل 15 عامًا حتى عام 2100”.
تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ يؤكد أنه منذ الخمسينيات من القرن الماضي تؤدي الزيادة في درجات الحرارة إلى موجات حر أسوأ، حيث أصبحت موجات الحر أطول وأكثر تواتراً وسخونة.
ووفقا لـ “تقرير التقييم السادس” الصادر عن فريق الأمم المتحدة الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ، والذي صدر في أغسطس 2021، فأن درجة الحرارة العالمية ارتفعت بمقدار 1.1 درجة مئوية مما كانت عليه تاريخيا، ما أدى إلى زيادة الموجات شديدة الحرارة، والتي كانت تحدث مرتين في القرن فحسب، بواقع خمس أضعاف، وأصبحت تحدث مرة كل 10 سنوات.
وأشار التقرير إلى أن الموجات الحارة تزيد بوتيرة أكبر من أي ظروف مناخية قاسية أخرى نتيجة تغير المناخ، وأن الموجات شديدة الحرارة التي كانت تحدث مرتين في القرن فحسب قد تحدث تقريباً مرة كل ست سنوات مع ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية وهو معدل يقول التقرير أننا قد نتخطاه خلال عقدين.
أما في حال وصلنا إلى زيادة درجتين مئويتين في متوسط درجة حرارة الأرض، ستتضاعف الموجات الحارة، ما يعرض حوالي 14 ٪ من سكان العالم الى موجات حرارة قاسية.
اقرأ أيضًا..أخطر تقرير في العالم.. الهيئة الحكومية المعنية بـ تغير المناخ تطلق الإنذار الأخير
هل أوروبا حالة خاصة؟
على الرغم من أن موجات الحر تؤثر على معظم أنحاء العالم، إلا أن هناك اختلافات إقليمية وعوامل أخرى، وفقًا للخبراء، بعضها يتعلق بدورة الغلاف الجوى والمحيطات، والتى تجعل أوروبا مركزا لموجات الحر.
سجوكجي فيليب من المعهد الملكي الهولندي للأرصاد الجوية قال: “تسخن موجات الحر في أوروبا الغربية بشكل أسرع من بعض المناطق الأخرى”. “يمكن أن تؤثر عوامل مختلفة على ذلك: جفاف التربة، والتغيرات في التيار النفاث، أو مناطق الضغط العالي التي غالبًا ما تبقى في مكان واحد لفترة طويلة.”.
وتقول إيفى روسى، العالمة البارزة فى معهد بوتسدام لأبحاث المناخ فى ألمانيا، والتى ألفت دراسة حول أسباب تغير المناخ فى أوروبا، إن الزيادة فى تواتر وشدة موجات الحر فى أوروبا خلال العقود الأربعة الماضية، مرتبط بزيادة جزئية على الأقل فى التغييرات فى التيار النفاث.
وجد الباحثون أن العديد من موجات الحرارة الأوروبية حدثت عندما انقسم التيار النفاث مؤقتا إلى قسمين، وترك منطقة من الرياح الضعيفة والهواء عالى الضغط بين الفرعين مما يؤدى إلى تراكم الحرارة الشديدة..
تظهر الأبحاث التي أجرتها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أن درجات الحرارة ترتفع في جميع أنحاء أوروبا بمعدل يتجاوز متوسط التغيرات في درجات الحرارة العالمية في السنوات القادمة، في حين أن تواتر وشدة الظواهر الحارة ستزداد أيضًا.
تقول مريم زكريا، عالمة المناخ في إمبريال كوليدج لندن: ” قد يرى البعض أن 40 درجة مئوية أمر طبيعي في أي مكان آخر من العالم فلماذا يشعر الأوربيين بالقلق؟”
ثم تجيب: ” في العديد من البلدان الأوروبية، لم يتم تصميم المباني لتحمل درجات حرارة حتى 5 درجات فوق 20 درجة مئوية”.
وتضيف: “هذه مشكلة خطيرة في شمال أوروبا، حيث تم بناء معظم المنازل لحبس الحرارة لمساعدة السكان على تحمل البرد بشكل أفضل، مما يتسبب في ارتفاع درجات الحرارة في الأماكن المغلقة أثناء موجة الحر، فقط جزء ضئيل من هذه المنازل بها مكيف هواء”.
وتكمل: “المدن التي لم يتم بناؤها لتحمل درجات الحرارة المرتفعة، في كثير من الحالات، لا تمتلك البنية التحتية المناسبة للحفاظ على البرودة، وتحتاج الكثير من الظل والوصول إلى المساحات الخضراء والمياه، أو تدابير الاستجابة للطوارئ لمساعدة الفئات الأكثر ضعفًا”.
وحول الاستجابة الحكومية المفترضة لما يحدث في أوروبا يقول سجوكجي فيليب: ” إنه بخلاف الإجراءات الفورية، تحتاج الدول الأوروبية إلى خطط عمل طويلة الأجل بشأن الحرارة. وهذا يعني زراعة المزيد من الأشجار في المدن، وبناء منازل مقاومة للحرارة، وإعادة تأهيل المباني وإنشاء أنظمة إنذار مبكر قوية.
بدأ الاتحاد الأوروبي بالفعل اتخاذ خطوات لمواجهة الأمر، وحث المسؤولين في المدن والحكومات على اتخاذ هذه الإجراءات.
وصرح متحدث باسم المفوضية الأوروبية بأن “التكيف مع تغير المناخ أمر أساسي ويجب أن يصبح أسرع وأكثر ذكاءً وأكثر منهجية”.
اقرأ أيضًا..صندوق النقد الدولي يطلق تقرير التكيف مع التغير المناخي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى
الحر المميت
أكثر المخاطر المباشرة الناجمة عن موجات الحر الشديدة هي ضربة الشمس والإجهاد الحراري، والتي يمكن أن تكون قاتلة في بعض الحالات، خاصة بين كبار السن والأشخاص الذين يمارسون الرياضة أو يعملون في درجات حرارة عالية.
مع ارتفاع درجة الحرارة، يزداد التعرق ليبرد العرق الجسم عن طريق التبخر، كما تتمدد الأوعية الدموية القريبة من الجلد مما يسمح للدم بالخروج من قلب الجسم إلى أطرافه.
بدون معالجة الجفاف، يمكن أن يؤدي ذلك إلى ضغط إضافي على القلب ويتسبب في انخفاض ضغط الدم بشكل خطير، مما يؤدي إلى فشل الأعضاء في الحالات القصوى.
أيضًا، عندما تتجاوز درجة الحرارة المحيطة 37.5 درجة مئوية، يصبح التعرق نفسه أقل فعالية.
ويشير الخبراء إلى أن العرق يتبخر بسبب حرارة الهواء وليس من الجسم، لذلك فإن التعرق ليس فعالاً في تبريد جسم الإنسان.
تحدث ضربة الشمس عندما يتعذر على الجسم الحفاظ على درجة حرارته ويمكن أن تؤدي إلى تلف الدماغ والأعضاء دون علاج عاجل وسريع.
في الغالب يكون عدد القتلى الحقيقي بسبب موجات الحر أعلى بكثير مما يُبلغ عنه، لأن الحرارة تضع خلايا الجسم وأعضائه تحت الضغط، وتتفاقم الآثار مع الوقت، ولا تظهر في نفس توقيت الموجة الحارة.
حيث يمكن أن يؤدي الإجهاد الناجم عن التعامل مع درجات الحرارة المرتفعة، خاصة بين المرضى وكبار السن والصغار جدًا، إلى خسائر فادحة بعد عدة أيام أو حتى أسابيع.
جدير بالذكر إن العقد الماضي كان أكثر سخونة من أي فترة خلال 125000 سنة مضت، وزاد متوسط درجة حرارة الأرض 1.1 درجة مئوية في الفترة من 1900 وحتى 2000 بسبب النشاط البشري وحرق الوقود الأحفوري.
يلزم اتفاق باريس المبرم في 2015 الدول بالعمل على بقاء متوسط الزيادة في درجة حرارة الكوكب تحت درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية واستهداف قصر الزيادة على 1.5 درجة مئوية.
منذ توقيع اتفاقية باريس، أصبح العلماء أكثر يقينا من أن ارتفاع درجة الحرارة العالمية درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة سيكون كارثيا، وأن ارتفاعها أيضًا إلى 1.5 درجة مئوية لن يكون أمرًا هينًا، لكنه أفضل السيناريوهات المطروحة وأقلها ضررًا.
للحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية، خلص الخبراء إلى ضرورتين رئيسيتين: أولا، يتعين على الاقتصاد العالمي أن يتخلى بسرعة عن النفط والغاز والفحم وأن يتحول إلى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها من مصادر الطاقة غير الكربونية.
ثانيًا، يتعين على البشر أن يضعوا حدًا لإزالة الغابات، التي يرجع أسباب إزالتها بشكل كبير إلى عوامل اقتصادية، تستهدف التوسع في إنتاج لحوم البقر عبر تخصيص تلك المساحات لرعاية الماشية، أو لزراعة فول الصويا وزيت النخيل، حيث تعتبر الغابات من أهم السبل لمواجهة تغير المناخ لدورها المهم في امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.