تقاربت الأزمات الاقتصادية والسياسية هذا العام في باكستان، وشهدت الدولة الواقعة في جنوب آسيا والتي يزيد عدد سكانها عن 230 مليون نسمة، قلاقل مستمرة بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود ما تسبب في احتجاجات شعبية أجبرت الرئيس السابق للبلاد، عمران خان، على ترك منصبه.
لم تلتقط باكستان أنفاسها بعد شهور من التوترات، ودخلت منذ يونيو الماضي في دوامة جديدة من الأزمات، بعد أن أغرقتها المياه عقب تعرضها لأسوأ الفيضانات في تاريخها المسجل بسبب تغيرات المناخ، رغم أن انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري أقل من 1٪.
أصبحت مساحات شاسعة من باكستان تحت الماء الآن بعد أن شهدت أعنف أمطار مسجلة في تاريخها، مع فترات راحة قليلة منذ منتصف يونيو.
شهدت بعض المناطق خمسة أضعاف مستويات الأمطار الموسمية المعتادة، واجتاحت سيول من المياه قرى وأراضي زراعية بأكملها، ودمرت المباني وقضت على المحاصيل، ومات أكثر من 1100 شخص وتأثر 33 مليون شخص.
تُظهر صور الأقمار الصناعية كيف انهارت المجتمعات السكنية في باكستان عقب الفيضانات، وهروب السكان المحليين تاركين وراءهم الأرض والغبار.
تُظهر بيانات الاتحاد الأوروبي أن باكستان مسؤولة فقط عن أقل من 1٪ من غازات الاحتباس الحراري في العالم، لكنها تحتل المرتبة الثامنة بين الدول الأكثر عرضة لأزمة المناخ، وفقًا لمؤشر مخاطر المناخ العالمي.
تدفع البلاد ثمنًا باهظًا، ليس فقط من الأرواح ولكن أيضًا من المدارس والمنازل والجسور والبنية التحتية المدمرة.
يقدر المسؤولون أن إجمالي فاتورة الخسائر الناجمة عن الفيضانات الكارثية في باكستان، سيكون 10 مليارات دولار.
قال الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في باكستان إن التعافي قد يستغرق سنوات، كما أن احتمالات بتوقف أي انتعاش متوقع بسبب كارثة أخرى.
اقرأ أيضًا.. العدالة المناخية في عالم مضطرب.. كيف يؤدي الفقر وعدم المساواة لتفاقم الأزمة؟
العدالة المناخية
قال وزير الخارجية الباكستاني بيلاوال بوتو زرداري في مقابلة مع وسائل إعلام أمريكية يوم الثلاثاء: “نرى باستمرار الدمار المناخي في أشكال الفيضانات والرياح الموسمية والجفاف الشديد وموجات الحر الشديدة، لكن بكل صراحة، يدفع شعب باكستان الثمن من حياته، ومصادر رزقه، لتستمر الدول الغنية في صناعاتها ودعم اقتصادها وتصدير الانبعاثات التي أدت إلى هذا التغير المناخي”.
إن الظلم الصارخ لأزمة المناخ، التي تؤثر بشدة في الدول التي لم يكن لها علاقة تاريخية بالتسبب في حدوثها، يثير تساؤلات حول من يجب أن يدفع الثمن، لا سيما ثمن الأضرار التي تتعامل معها دول مثل باكستان.
أصدرت الأمم المتحدة نداء عاجل من أجل جمع 160 مليون دولار من أموال الطوارئ يوم الثلاثاء، وهو ما يكفي بالكاد لخدش العشرة مليارات دولار المطلوبة.
قدمت بعض الدول، مثل الولايات المتحدة وتركيا، مساعدات عاجلة لباكستان، وأرسلت طائرات هليكوبتر إنقاذ وإمدادات غذائية وطبية، ومع ذلك، فإن حاجة البلد المنكوب أكبر مما يقدمه العالم.
تعاني دول عدة من هذه المشاهد المدمرة، وتتحمل تكاليف فلكية للتعافي ومعالجة الخسائر، رغم أن أزمة المناخ والاحترار العالمي لا تزالا عند 1.2 درجة مئوية من الاحتباس الحراري منذ الثورة الصناعية، فماذا عندما يتخطى متوسط درجة حرارة الأرض 1.5 درجة أو درجتين مئويتين؟
تظهر التحليلات أن العالم يسير بشكل متسارع نحو ارتفاع درجات الحرارة بأكثر من درجتين مئويتين، ويحذر العلماء من أن كل عُشر درجة (0.1) زيادة في الاحترار العالمي، سيؤدي إلى تفاقم آثار الأزمة.
اقرأ أيضًا.. ما هو هدف 1.5 درجة مئوية الذي يسعى إليه العالم؟ وكيف يجنبنا غضبة المناخ وتغيراته؟
باكستان تدفع الثمن
تحتاج باكستان إلى أموال كثيرة للتكيف مع الأزمة، بجانب أنها مضطرة لدفع ثمن الأضرار الناجمة عن الطقس المتطرف الذي يتسبب فيه تغير المناخ، ما يعني أنها ستكافح لتجد أموالًا كافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
يقول فهد سعيد، عالم المناخ في مجموعة كلايمت أناليتيكس، ومقرها إسلام أباد: “ما يحدث الآن مع ارتفاع درجة حرارة 1.2 درجة مئوية ليس بسبب الفقراء في باكستان، إنهم ليسوا مسؤولين عما يحدث، وهذا يبرز قضية العدالة المناخية بشكل واضح للغاية.”.
وأضاف أن باكستان، مثل العديد من الدول النامية، بحاجة إلى انتشال معظم سكانها من الفقر، وهو أمر يصعب القيام به في خضم الأحداث المناخية القاسية المتتالية، ومع الدعم المالي القليل القادم من الخارج.
وقال سعيد: “إن باكستان في وضع يمكنها من تقديم حجة قوية في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ السابع والعشرين (COP27) في مصر في (نوفمبر) المقبل، وهي أن الدول الصناعية الكبرى يجب أن تساعدها في دفع الثمن.
ظلت الدول المتقدمة والنامية منقسمة بشكل عام حول هذه القضية لسنوات.
وافق العالم المتقدم منذ أكثر من عقد على تحويل ما لا يقل عن 100 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2020 إلى الدول النامية للمساعدة في انتقالها للطاقة النظيفة والابتعاد عن الوقود الأحفوري، وأيضًا لمساعدتها على التكيف مع تغير المناخ.
لكن هذه المبالغ التي أقرتها اتفاقية باريس وألزمت ها الدول الغنية، لم تسلم كاملة للدول النامية حتى الآن.
اقرأ أيضًا.. في قمة المناخ COP 27.. الدول النامية تستعد لمعركة الخسائر والأضرار وهذه تفاصيلها
الخسائر والأضرار
كانت قضية التعويضات المناخية، المعروفة دوليًا بقضية “الخسائر والأضرار”، والتي نوقشت في محادثات جلاسكو وبون خلال السنة الماضية، وتسببت في صدام بين الدول الغنية من جانب والنامية من جانب آخر، تطرح نفس السؤال المثير للجدل: من يجب أن يدفع ثمن التدمير والضرر بسبب تغير المناخ؟
تقول الدول النامية إنها بحاجة إلى المال للتعامل مع آثار تغير المناخ، لأنها تعاني من الآثار أكثر من الدول الغنية ولديها قدرة مالية أقل للتعامل معها.
تؤكد الدول النامية أن تغير المناخ الذي يعانون منه نتج عن الكربون المنبعث من الدول الغنية أثناء تطوير اقتصاداتها. لذا على أوروبا والولايات المتحدة مسؤولية تعويضهم عن ذلك الآن.
على الجانب الأخر، لا تتفق الولايات المتحدة وأوروبا مع هذا الأمر، ويخشون من أنهم إذا دفعوا مقابل الانبعاثات التاريخية، فقد يتسبب ذلك في وضع بلدانهم في مأزق لعقود أو حتى لقرون قادمة.
يُطلق على هذه القضية اسم ” الخسائر والأضرار ” وأصبحت مشكلة مستمرة في جميع المفاوضات العالمية حول تغير المناخ.
في محادثات المناخ COP26 في جلاسكو، كانت الولايات المتحدة واحدة من ضمن الدول المتقدمة التي أبدت معارضتها للمدفوعات الإجبارية مقابل “الخسائر والأضرار”- خاصة بالنسبة للخطط القائمة على المسؤولية التاريخية.
تاريخيا، تمثل الولايات المتحدة أكبر دولة مصدرة لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، تليها الصين.
كما أن الاجتماعات التي عقدت في وقت سابق من هذا العام في بون لمناقشة القضايا التقنية، شهدت اندلاع خلافات بين المعسكرين واتهامات بالخيانة بسبب الخسائر والأضرار.
اقرأ أيضًا.. قضية الخسائر والأضرار تهيمن على مفاوضات قمة المناخ COP27.. ما دور مصر؟
COP 27
من المتوقع أن تشهد قمة المناخ المقبلة COP 27 بشرم الشيخ فصلًا جديدًا من فصول الخلاف القائم منذ فترة حول هذه القضية، ما قد يزيد الضغط على مصر، التي تترأس مفاوضات المناخ هذا العام، لتضمن في النهاية معالجة مسألة تعويض الخسائر والأضرار.
وافق المفاوضون في قمة الأمم المتحدة COP 26 العام الماضي على إطلاق حوار لمدة عامين حول الخسائر والأضرار، لكنهم لم يصلوا إلى اتفاق حول إنشاء صندوق فعلي لجمع التمويل.
يمكن أن يؤدي وضع الموضوع على جدول أعمال COP 27 إلى فتح مناقشات حول مصدر الأموال وكيفية توزيعها أو حتى كيفية تحديد الخسائر الناجمة عن المناخ.
تشير بعض الأبحاث إلى أن مثل هذه الخسائر قد تصل إلى 580 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2030.
وحول هذا الأمر قال وزير الخارجية المصري والرئيس المعين لقمة المناخ المقبلة سامح شكري إن مصر ستسعى خلال قمة المناخ COP 27 في الوصول إلى توافق على مزيد من المبالغ المحولة بعد 2025، حيث تصل أحدث التقديرات لتمويل أهداف المناخ للدول النامية إلى 6 تريليونات دولار في المجموع حتى 2030.
أكد شكري أن الوصول إلى هناك لن يكون سهلاً، إذ تريد البلدان النامية ألا تستمر مسألة التمويل في التخفيف والتكيف قيد التفاوض بينما درجة حرارة كوكب الأرض ترتفع.
قال شكري إن مهمة رئاسة قمة المناخ COP 27 هي مواءمة وتقريب وجهات النظر والتغلب على هذا الانقسام.