تدفع أزمتي تغير المناخ والأمن الدولي عالمنا نحو مستقبل مختلف على كافة الأصعدة، خاصة على الصعيد الاقتصادي، الذي يشهد تهافتًا دوليًا نحو محطات الطاقة النووية، ما قد يشعل صراعًا جديدًا بين أمريكا والصين على النفوذ الاقتصادي العالمي.
قالت شبكة الأخبار المالية والتجارية الأمريكية الرائدة CNBC، إن تغير المناخ والحرب في أوكرانيا سوف تشكلان معًا إلى حد كبير ملامح جديدة لسوق الطاقة النووية السلمية أو التجارية حول العالم.
ذكرت الشبكة في أحدث تقرير لها أن الولايات المتحدة تحاول استغلال الضغوط العالمية من أجل تغير المناخ، والأوضاع الحالية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا وانعكاسها على الصين وروسيا، أكثر القوى السياسية المهيمنة في مجال الطاقة النووية التجارية، لسحب البساط من البلدين.
تولد المحطات النووية الطاقة بدون انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مما يوفر بديلاً للوقود الأحفوري الذي يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي.
لذا، بدأت الدول تدرك أنها لا تستطيع تحقيق أهدافها المناخية بمصادر الطاقة المتجددة، مثل الرياح والطاقة الشمسية، وحدها، وأنه لا بديل عن استخدام الطاقة النووية، التي كانت تثير القلق والأزمات في الغرب سابقًا.
بدا هذا التغير في نظرة الدول، بشأن أهمية التوسع في استخدام الطاقة النووية، بوضوح خلال مؤتمر المناخ COP 26 في جلاسكو العام الماضي، ويقول الخبراء إنه كان هناك “تغير جذري” في المشاعر والمواقف بشأن الطاقة النووية خلال هذه القمة.
وفقا للرابطة النووية العالمية، هناك حوالي 440 مفاعلا للطاقة النووية تعمل في أكثر من 30 دولة، وتوفر حوالي 10٪ من الكهرباء في العالم.
تهيمن الصين وروسيا عالميًا على مجال الطاقة النووية التجارية، بعد ما تراجعت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية في هذا المجال خلال الأعوام الثلاثين الماضية.
قال كينيث لونغو، مؤسس الشراكة غير الربحية للأمن العالمي، التي تعمل في مجال الأمن وسياسة الطاقة: “إنه مع صعود روسيا والصين إلى الصدارة، كانت الولايات المتحدة تتراجع في بناء المفاعلات النووية التقليدية، حيث حظيت الطاقة النووية بسمعة سيئة في الولايات المتحدة بعد الحادث النووي في جزيرة ثري مايل في عام 1979 في ولاية بنسلفانيا، وعلى مستوى العالم بعد حوادث تشيرنوبيل في الاتحاد السوفيتي الأوكراني في عام 1986 وفوكوشيما في اليابان في عام 2011، لكن المد بدأ يتحول الآن”.
تمتلك الصين “الطاقة النووية التجارية الأسرع نموًا في العالم، أو ما يطلق عليها أيضًا الطاقة النووية المدنية أو السلمية.
حاليا، يتم بناء 55 مفاعلا جديدا في 19 دولة، 19 منها في الصين وحدها، بينما الولايات المتحدة لديها اثنان فقط قيد التنفيذ.
قال جون كوتيك من معهد الطاقة النووية: “من المؤكد أن الصين لديها أكثر البرامج نشاطًا في مجال البناء النووي الجديد”.
تبني الصين مفاعلات نووية جديدة بوتيرة تعادل تقريبًا ما فعلته الولايات المتحدة في السبعينيات، أو فرنسا في السبعينيات والثمانينيات.
ويضيف: “إن بعض تركيز الصين على بناء مفاعلات طاقة نووية جديدة هو استجابة للنمو السريع في الطلب على الطاقة من السكان الذين يتزايد عددهم بسرعة وينضمون إلى الطبقة الوسطى”.
أما روسيا فلديها برنامج ثابت إلى حد ما لبناء مفاعلات نووية تجارية جديدة من حين لأخر، حاليًا تبني موسكو ثلاثة مفاعلات نووية جديدة في عدة مناطق بالبلاد.
تعتبر روسيا أيضًا أكبر مصدر للتكنولوجيا النووية في العالم.
اقرأ أيضًا.. أخطر تقرير في العالم.. الهيئة الحكومية المعنية بـ تغير المناخ تطلق الإنذار الأخير
أمريكا والصين وفصل حديد من الصراع
تحاول الولايات المتحدة تغيير قواعد المنافسة في هذا القطاع العالمي المهم، وتعمل على إزاحة الصين وروسيا من الصدارة، كجزء من مسلسل الحرب الاقتصادية والتكنولوجية الباردة المستمرة بين واشنطن من جانب، وبكين وموسكو من جانب أخر.
يؤكد الخبراء أن شهية الولايات المتحدة زادت خلال الفترة الأخيرة من أجل السيطرة على سوق الطاقة النووية التجارية العالمي لسببين، أولهما أن الطاقة النووية هي بديل قوي للوقود الأحفوري في خضم أزمة تغير المناخ العالمية، خاصة في الدول التي تنغلق فيها اقتصادات الفحم.
بجانب أن الحرب الروسية الأوكرانية ستمنح الولايات المتحدة نفوذًا كبيرًا في السوق العالمية، وستؤدي الحرب إلى المزيد من الفرص للشركات النووية الأمريكية من أجل الهيمنة على السوق العالمي، لأن روسيا تتراجع ومعها الصين.
السبب في هذا التراجع يشرحه لونغو لشبكة CNBC قائلًا إن الهجوم الروسي الخطير على محطة زابوريزهزهيا للطاقة النووية في أوكرانيا، وقرار الصين بعدم التصويت لصالح قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمنع هذا النوع من الهجمات “سوف ينعكسان بشكل سلبي على سمعة التصدير النووي للبلدين”.
وأضاف: ″السؤال هو ما إذا كانت الولايات المتحدة والدول الديمقراطية الأخرى لديها القدرة لتتحرك بسرعة لإثبات هذه النقاط والاستفادة من الفرصة.”.
تحاول إدارة بايدن استغلال الفرصة بالفعل، وكانت قد صممت حلولًا تضمن لها التفوق في مجال الطاقة النووية المدنية مستقبلًا، وأدرجت هذه الحلول في مشروع قانون البنية التحتية الذي عرض على الكونجرس، وتم توقيعه بالفعل ليصبح قانونًا في نوفمبر الماضي، وسيشكل هذا القانون عاملًا مهمًا في الصراع الاقتصادي القادم للسيطرة على سوق النووي العالمي.
يتضمن القانون برنامجًا بقيمة 6 مليارات دولار يهدف إلى الحفاظ على أسطول الولايات المتحدة الحالي من مفاعلات الطاقة النووية.
على مستوى الولايات، هناك ما بين 75 و 100 مشروع قانون متعلق بالطاقة النووية في المجالس التشريعية للولايات في جميع أنحاء البلاد في الوقت الحالي، وهو رقم يفوق بكثير ما كان قبل 10 سنوات، حيث كان متوسط عدد مشاريع القوانين المتعلقة بالطاقة النووية في المجالس التشريعية للولايات كلها، حوالي اثني عشر فقط.
ورغم أنها لا تزال مشروعات لقوانين، يمكن أن ترفض المجالس التسريعية في الولايات بعضها، إلا أنه مؤشر على زيادة حقيقية في الاهتمام بالطاقة النووية داخل الولايات المتحدة، وفق الخبراء.
تركز الولايات المتحدة أيضًا على بناء مفاعلات الطاقة النووية التي تنتمي للجيل الرابع، رغم أنها مكلفة في البناء، وفي كثير من الأماكن أصبحت أكثر تكلفة من بدائل الطاقة الأساسية الأخرى مثل الغاز الطبيعي.
ومع ذلك، تضغط الولايات المتحدة بقوة نحو ما يمكن أن نسميه الجيل الجديد من الطاقة النووية.
لا تريد الولايات المتحدة السماح لروسيا والصين بالسيطرة على المرحلة القادمة من السوق النووية، لذا فإن الولايات المتحدة تضخ مليارات الدولارات- بشكل مثير للصدمة- في تطوير ما يسمى بالمفاعلات المعيارية الصغيرة.
المفاعلات المعيارية الصغيرة “إس إم آر”، هي مفاعلات صغيرة، لا تتجاوز قوتها 300 ميجاوات، مقابل أكثر من ألف، للمفاعلات الحديثة التقليدية، ورغم صغر حجمها إلا أنها معقدة ومكلفة.
يقول لونغو: “على وجه التحديد، تستخدم الحكومة مختبر أيداهو الوطني كأرض اختبار لهذه المفاعلات”.
يضيف: “هذه المفاعلات الأصغر والمتقدمة ليست بالضرورة جديدة، بعض التكنولوجيا المستخدمة فيها كانت موجودة منذ الخمسينيات، لكنها تشهد نهضة الآن، ويمكن بناؤها بمزيد من الأجزاء القياسية، على عكس البناء المخصص، مما يسمح ببناء أسرع وأرخص”.
لكن في حين أن الولايات المتحدة تعد نفسها لتكون قادرة على المنافسة من الناحية التكنولوجية، فإنها ليست مستعدة من وجهة نظر سياسية، حسبما قال لونغو لشبكة CNBC.
تستخدم المفاعلات التقليدية اليورانيوم المخصب بنسبة 5٪، بينما تستخدم المفاعلات المتقدمة اليورانيوم المخصب بنسبة حوالي 19٪، وهو أقل بقليل من الحد الذي حددته الوكالة الدولية للطاقة الذرية لنسبة اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة، وهو 20٪.
قال لونغو: “لا نعرف حتى الأن ما يعنيه ذلك من منظور الأمن وعدم الانتشار النووي”.